أصبح لمفاهيم مثل مجتمع المعرفة والصناعات القائمة على المعرفة، رواج كبير في سبيل دعم الاقتصاديات النامية بما يتجاوز إنتاج المواد الخام أو الصناعات التحويلية إلى مستوى القدرة على بناء اقتصاد قائم على رافعة صناعة المعرفة. السؤال اليوم ليس في التقدم العلمي - وهو تعبير عن تطور مجتمع منتج للمعرفة ومستثمر لنتائج البحث العلمي - ولكن في فهم وتحليل ظاهرة من ظواهر التخلف لاكتشاف أبعادها وأسبابها ودواعي استمرارها. تظل المؤشرات تؤكد تواضع المنجز العلمي العربي. والمؤشرات المتداولة في الأدبيات التي تناقش قضايا البحث العلمي تدور غالباً بين عدة عناصر منها: عدد الجامعات ومراكز البحوث وعدد الباحثين، ونسبة هؤلاء الباحثين بالنسبة لعدد السكان مقارنة بالدول المتقدمة، والنشر العلمي، وعدد براءات الاختراع، ونسبة الإنفاق على البحث العلمي من مجمل الناتج القومي.. وغيرها من المؤشرات. وهي تقدم بالمجمل نتائج متواضعة عند المقارنة بما هو عليه الحال في الدول الغربية الصناعية المتقدمة وحتى في بعض الدول النامية.. كما أن فصل هذه المؤشرات عن النشاط الاقتصادي القائم على البحث العلمي أو ما يعد من ثماره ونتائجه، وكذلك فصلها عن البيئة الفكرية والثقافية.. يقدم بدوره استنتاجات غير دقيقة لقياس حالة نمو في هذا القطاع. المؤشرات بناء على أرقام تظل ناقصة طالما لم يكن هناك مؤشرات اقتصادية تبحث في جملة ما يدخل في صادرات الدول العربية من مكونات ذات الصلة بالمعرفة والتقنية أو ما ينتج أو يطور منها محلياً، وما لم يكن هناك قراءات ودراسات تبحث في العناصر المعطلة التي تؤدي إلى نشاط علمي معزول عن سياق حراك المجتمع وقضاياه. الفصل بين مسارات التقدم فصل غير منطقي، إلا أن الأخطر هو انعدام الرؤية نحو بناء مشروع علمي قابل للحياة، فهذا المشروع لو تحقق برؤية محددة وتنفيذ دقيق قادر أيضاً على التأثير إيجابياً في المسارات الأخرى بشكل أو بآخر. المقارنات من خلال الأرقام لا تكفي، وأحياناً توحي أن زيادة التمويل أو عدد الباحثين أو تقوية مراكز النشر بالجامعات العربية كفيل بتخطي الفجوة أو تقديم مؤشرات تؤكد أن هناك تقدماً من نوع أو آخر في هذا المجال، وعلى الرغم من أهمية تلك العناصر إلا أنها ليست كافية لضمان جودة هذا القطاع. هل الجامعات لدينا البيئة المناسبة لإحداث نقلة نوعية في البحث والتطوير؟ إنها ليست الجامعات بالغرب المرتبطة بالقطاع الصناعي والشركات الكبرى والتي توجه بحوثها ونشاط مراكزها ومختبراتها لدعم القطاع الصناعي والتطوير التقني في عملية تبادلية أخذت مسارها عبر خطوط الإنتاج والتطوير المستمرين. الجامعات لدينا لازالت ترزح تحت وطأة التعليم الجامعي، وتزايد عدد البحوث وحركة النشر في الجامعات ليس هو المعيار لقراءة حالة نمو تربط بين البحث العلمي والعائد الاقتصادي، فمعظم هذه البحوث هي أبحاث ترقية لأعضاء هيئة التدريس، وقد لا تصل إلى مستوى أن تصبح براءات اختراع، وإذا وصلت فهي تظل معطلة، إذ لا يوجد قطاع صناعي قادر على المبادرة وتحويل تلك البراءات إلى منتجات. التقدم في العملية البحثية في الجامعات والنمو في النشر العلمي لا يعني نمواً مماثلاً في الإنتاج الصناعي والتطبيقات لهذه البحوث. هناك انفصال كبير بين المؤسسات الاكاديمية والبحثية والصناعة، معظم النشاط الصناعي مستورد أساساً وليس ناتجاً محلياً، وهو يقوم على صناعات تحويلية أو تجميعية. لذلك يبقى الإنجاز البحثي في الغالب معزولاً عن القطاع الإنتاجي والصناعي. التطوير التقني يبدأ من عملية نقل التقنية، التجربة اليابانية والكورية والماليزية توجهت نحو نقل التقنيات التي تحتاجها وعملت على تطويرها فيما بعد.. حتى وصلت اليوم إلى ما وصلت إليه. وهنا يأتي السؤال ما هي التقنيات التي تتمتع بميزات نسبية، لتجعل منها مجالاً للنقل والبحث والتطوير وصولاً إلى مستوى القدرة المتقدمة في الإنتاج. هذا المشروع يتطلب بناء مؤسسات قوية وقادرة ومؤهلة وملتزمة بمشروع زمني للتطوير وتربط نشاطها بالقطاع الصناعي والإنتاجي، وتتولى مهام لا يمكن أن تقوم بها الجامعات بالوقت الحالي وضمن ظروف مهمة تعليمية لم تصل بعد إلى مستوى مُرضٍ ناهيك أن تحمل عبء مشروع كبير كهذا. القطاع الصناعي في معظمه قطاع يعتمد صناعات تحويلية مستورد بكامل معداته من الخارج وخبراؤه من الخارج ولا يوجد في معظمه أي مراكز تطوير أو بحث. ولذا لابد من العودة إلى الفكرة الأساسية في إحداث نقلة في مجال التطوير التقني من خلال مبادرة الدولة إلى بناء مشروعات تستهدف نقل التقنية في مجالات تحتاجها وتمثل ميزة نسبية لها. لم يحدث في أي بلد من بلدان العالم النامية أن حقق تقدماً تقنياً وعلمياً وصناعياً إلا عن طريق النقل أولاً وصولاً إلى مرحلة استيعاب التقنية ومن ثم تطويرها عبر تلازم واضح بين البحث العلمي والتطوير حتى خطوط الإنتاج. هذا المشروع يتطلب أن تصبح الحكومة هنا وليس القطاع الخاص هي المسئول بالدرجة الأولى عن بناء مشروعات محددة الأهداف، وبناء على توافر الميزات النسبية، مما يجعلها قادرة على مواصلة مشروعها سواء عبر هيئات نقل للتقنية والتطوير والتصنيع. ولعل ما أعلن في المملكة قبل أسابيع عن إنشاء شركة حكومية للتقنية يساهم في سد هذه الفجوة بين البحث العلمي والتصنيع، والمؤمل أن يتحول إلى نشاط مؤسسي يضطلع بدور لا غنى عنه في هذه المرحلة. إرادة القيادة التي تنظر للمشروع العلمي كجزء أساسي وضروري ومقوم لأمن الدولة الاجتماعي والاقتصادي والانهماك في متابعة ورعاية هذا المشروع.. العامل الأكثر أهمية في دعم التوجه نحو بناء منظومة واضحة الأبعاد تقوم على رؤية ومشروعات قابلة للتنفيذ، وتهدف إلى ربط الاقتصاد بالمعرفة والتطوير العلمي، وتنظر لمسألة التقدم العلمي باعتبارها مهمة أساسية وينطوي عليها القدرة على تحقيق الكفايات وإبداع الحلول وتطوير منتجات يعول عليها في تعظيم عوائد الاقتصاد. والنظر لهذه المسألة من واقع الدول المتقدمة مختلف عن النظرة في بيئة مازالت تعيش أدوار القيادة السياسية في تشكيل وتكوين ورعاية مشروع كبير يهدف إلى بناء قطاع علمي وتقني يقف على أرض صلبة، وتدعمه قيادة توفر له مقومات النمو حتى يصل إلى مستويات يمكن مقارنتها بما وصلت إليه الدول التي شقت طريقها في هذا الاتجاه وبدأت تحصد ثماره. مقارنة آليات البحث العلمي في بلدان نامية بما هو الحال عليه في الدول الصناعية المتقدمة حيث البحث العلمي والتطوير التقني جزء من مقومات مؤسسات راسخة وكيانات اقتصادية كبرى.. مقارنة غير دقيقة، لأن شروط إنتاج العلم وتوظيفه غير متكاملة، وتبدو العلاقة بينهما منفصمة في واقع يجب أن يقرأ كما هو. الفصل بين مسارات التقدم فصل غير منطقي، إلا أن الأخطر هو انعدام الرؤية نحو بناء مشروع علمي قابل للحياة، فهذا المشروع لو تحقق برؤية محددة وتنفيذ دقيق قادر أيضاً على التأثير إيجابياً في المسارات الأخرى بشكل أو بآخر. هناك اعتمادية كبيرة بين عناصر التقدم بما فيها مجال البحث العلمي الذي لا يكفي فيه بناء المراكز اللافتة، وتجهيزها بالمعامل والمختبرات، ولا بعقد المؤتمرات تحت عناوين العالمية، ولا بإرسال البعثات للدراسة بالخارج. المهم أن تكون ثمة رؤية تنظر تتجاوز فكرة الترويج لصناعة مجتمع المعرفة نظرياً، إلى محاولة أن تجعل المعرفة سلعاً وسوقاً ومنتجاً وخدمات... يشعر بقيمتها وأثرها المجتمع حتى يؤمن أن ثمة مشروعاً عليه أن يواكبه ويعمل فيه ويحقق ذاته من خلاله.