كثيراً ما يفاجئ الصغار آباءهم بأسئلة تبدو أكبر من أعمارهم الزمنية، ويكتشف الآباء من ذلك شعورين: الأول شعور بالسعادة والارتياح لما يجدونه في أبنائهم من علامات النجابة والنبوع، ومن التفكير العميق والانتباه لما يرونه ويسمعونه، ويبدأون يروون ما سمعوه من صغارهم في مجالس الأصدقاء، والمعارف، وقد يكتبون عن ذلك كما أفعل هنا - إذا كان لديهم علاقة بالقلم - ولا ضير في كل ذلك، فهو أمر طبيعي لدى الإنسان، أن يعجب، ويدهش للأمر الغريب، وفي تراثنا قصص وروايات كثيرة عن نبوغ الصغار، وما قالوه، وفعلوه أمام الكبار مثل قصة ابن عمر رضي الله عنهما في معرفته جواب الشجرة التي لا يسقط ورقها وهي مثل المؤمن، أو قصة ابن عباس رضي الله عنهما في حضور مجالس كبار الصحابة!!. والشعور الثاني هو الاحساس بشيء من الحيرة أو الارتباك في الجواب عن السؤال الكبير المفاجئ، أو المحرج أحياناً. وقد يكون التوفيق حليف الآباء أحياناً، ولكنهم قد لا يوفقون في الجواب أحياناً أخرى، ويبدو عليهم التخبط، ويعطون جواباً بعيداً عن الحقيقة متوهمين أنهم استطاعوا الالتفاف على السؤال المشروع، والحقيقة إنهم التفوا على أنفسهم هم! لأن هؤلاء الصغار على قدر من الذكاء يستطيعون التمييز بين الجواب الصحيح المنطقي، وبين اللف والدوران، ولا تستبعد أن يروي موقفاً من هذ المواقف عندما يكبر ويستعيده في عقله الباطن الذي ارتسم فيه بقوة، وأثر في تشكيل شخصيته. وسأروي لكم موقفاً حصل معي مؤخراً مع ابني الذي انتقل إلى الصف الثاني الابتدائي، فقد فاجأني بالسؤال عن معنى (الديموقراطية)، هذه الكلمة التي كانت عنواناً على الدول الأكثر استبداداً، والأشد استعباداً لشعوبها في العصر الحديث بدءاً من منظومة الاتحاد السوفياتي المنهارة البائدة، وانتهاء بما لم تنته من الذيول التابعة لها في العالم العربي وغير العربي. لقد فاجأني ابني بالسؤال عن الديموقراطية على مائدة الإفطار في رمضان! وأبنائي الكبار حولي، فجعلنا ذلك حديثنا على المائدة، مسترجعين أحاديث الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله (على مائدة الإطفار) وطريقته في تفريع الأحاديث وإنشائها في الكملة والفكرة والحركة العفوية أحياناً، وقلت فيما قلت: إن سؤال ابني الصغير عن الديموقراطية جوابي عليه يصلح موضوعاً لحديث، أو مقال، لأنه يتضمن قضية كبيرة في إطار صغير وهي: كيف نعرض القضايا الكبيرة في العقيدة والحياة على أبنائنا الصغار، وهي قضية المناهج أو المقررات المدرسية في العقيدة والفقة في المرحلة الابتدائية الأولية بخاصة. ماذا سيفهم ابني إن قلت له: (الديموقراطية هي حكم الشعب نفسه بنفسه!؟) إذاً، لا بد من البحث عن بدائل لهذا التعبير المصطلح عليه لدى الكبار، وبالتاكيد ليس من الحكمة إسكاته، والقول: إنه سيفهما عندما يكبر!! لأن ذلك قتل للدموقراطية نفسها في حياته، لقد أسعفني جواب عملي حاضر على المائدة، فقلت له - وهو لا يحب نوعاً من الطعام: الديموقراطية أن أترك لك الخيار والحرية في أن تأكل ما تريد في الأطعمة الموجودة، ولا أجبرك على طعام لا تريد أن تأكله، هل تريد أن تأكل من هذا الطعام - الذي لا يحبه؟! قال: لا، فقلت: أنت حر، كل مما تحب. فتهلل وجهه فرحاً، وارتسمت الابتسامة على شفتيه بوضوح، وأقبل على الطعام الذي يحبه. فهل وفقت في إعطاء مفهوم الديموقراطية لابني الصغير، أم أخفقت في ذلك؟! أرجو معرفة رأيكم!!.