يرى فريق من المصلحين أن القيام بفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إنقاذ للأمة ونهوض بها مما حل بها من الكوارث والنوازل والابتلاءات ويؤكدون صحة ما ذهبوا إليه بقول الحق تبارك وتعالى: {ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون}. فالفلاح يعني وجود الأمة المسلمة وحياتها وعزها وسؤددها وكرامتها، وهذه مرتبطة، في نظرهم، بالقيام بهذه الفريضة، وهذا كلام لا غبار عليه وفيه شيء كثير من الصحة. ولكن هل القيام بهذا الواجب، وفي ظل الوسائل التي يتعامل بها رجال الحسبة والتي لا ترقى إلى عظم المهمة وضخامة الهدف وحجم المسؤولية، كاف للنهوض بالأمة المسلمة من سباتها وغفلتها؟! إنا كثيراً ما نسمع في مجالسنا العديد من الانتقادات للوسائل التي اختاروها في أداء عملهم ويتعاملون بها مع أصحاب المنكرات! ويرى المنتقدون أن بعض رجال الحسبة مفتونون بحسن صنيعهم وقد أصابهم الشيء الكثير من العجب والاتكال على صلاحهم وأنهم يبالغون في سوء الظن بالآخرين بالقدر الذي يحسنون الظن بأنفسهم والإعجاب بأعمالهم ويرون أن بعض رجال الحسبة تجاوز تجاوزات شديدة مثيرة للفتن اضرت به وبالمجتمع وأن الضوابط الشرعية لم تكن تراعي في كثير من الأحوال. هذا ما يردده الكثيرون ممن لا يتفقون مع الوسائل التي يلجأ إليها رجال الحسبة. وأنا في هذا المقال لا أدعي علماً ولا أدعي فضلاً ولكن أدعو اخواني رجال الحسبة أن يقفوا قليلاً لمراجعة وسائلهم عند أداء هذه الشعيرة. فالمراجعة مطلب ضروري يأمر به ديننا الحنيف للوقوف على الخطأ ومعالجته وتصحيح المسار والتخلص من المرجعيات الدنيوية للأفكار والمبادئ وتقديس الأشخاص، ورحم الله أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه عندما قال لقاضيه أبي موسى الأشعري: (ولا يمنعك قضاءً قضيت فيه اليوم فراجعت فيه رأيك فهديت فيه لرشدك أن تراجع فيه الحق فإن الحق قديم لا يبطله شيء، ومراجعة الحق خيرٌ من التمادي في الباطل). يظن بعض من رجال الحسبة أنه لا يجوز لأحد أن يطالبهم بمراجعة وسائلهم وأساليبهم! وهذا فهم خاطئ ولا شك أنا نقر لهم بالفضل في تصديهم للمنكرات التي عمت وطمت ونحفظ لهم فضلهم ومكانتهم، ومجرد مناقشتهم في وسائلهم وطرح الرأي الآخر المعاكس لا ينقص من فضلهم، وما نقدهم إلا لغرض سد الخلة وتبصير المخطئ بخطئه وكما قال الإمام الحافظ الذهبي: (لو أنا كلما أخطأ إمام خطأ في اجتهاده في إحدى المسائل، خطأ مغفوراً له، قمنا عليه وبدعناه وهجرناه لما سلم معنا ابن نصر ولا ابن مندة ولا من هو أكبر منهما). والحق أن فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تلبسها الشيء الكثير من الغلو في تنفيذها، وعدها بعضهم من الدعوة إلى الله، حتى تصرف وكأنه الحاكم بأمر الله بل وكأنها الدين كله وتناسوا أن الحسبة فرض من ضمن عدة فروض ينتهي دورها بمجرد زوال المنكر، بينما الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة هي التي تبني المجتمع المسلم وترسخ الدين في نفوس أبنائه وهي التي ينبغي التركيز عليها. ولذا ينبغي أن يؤخذ الدين وتعاليمه والعمل به كله وما الحسبة إلا بعضه. ولا بد من تنقية هذا العمل الجليل مما شابه من تجاوزات كان فيها الإضرار الجسيم بأصحاب المنكرات بما يفوق حجم المنكر وكذلك تنقيته من المخالفات الجسيمة غير المنضبطة بضوابط الشرع الحنيف مما أثر في فاعليته وأضر بأهميته وسمعة القائمين عليه. والسؤال الذي يطرح نفسه: هل يجوز أن يكتفى بسوء الظن كوسيلة أو دليل على وجود المنكر ووجوب إزالته؟ إن سوء الظن ظاهرة خطيرة إن تفشت وسادت في أي مجتمع فإن أفراده لا يشعرون بالأمن والاستقرار، يتربص بعضهم ببعض ويخون بعضهم بعضاً، ويرصد بعضهم حركات بعض وسكناته حتى تبنى عليها جملة من الأوهام والخيالات تتحول فيما بعد إلى حقائق في ذهن ذلك الإنسان المريض ناهيك عما يتلو سوء الظن من تجسس وغيبة ونميمة، وكل هذه المعاصي ثمرة طبيعية لسوء الظن. ولقد وقف الإسلام موقفاً حازماً من سوء الظن فقال سبحانه وتعالى: {يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظن إن بعض الظن إثم} ويقول المصطفى صلى الله عليه وسلم وهو يطوف بالكعبة المشرفة: «ما أطيبك، وأطيب ريحك، ما أعظمك وأعظم حرمتك، والذي نفسي بيده لحرمة المؤمن أعظم عند الله تعالى حرمة منك: ماله ودمه وأن يظن به إلا خيراً» والرسول الكريم يجعل الظن الحسن في المؤمن قريناً لحرمة دمه وماله وهما أشد حرمات المسلم. ولا يخفى على عاقل أن أول التتبع يكون بالظن السيئ ثم السعي للتحقق منه وهذا معارض لقول الرسول الكريم: «إذا ظننت فلا تحقق» وقوله: «إنك إن اتبعت عورات الناس أفسدتهم أو كدت أن تفسدهم» وقوله: «إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث» وقد يتساءل أحدنا ويقول: كيف يكون الظن أكذب الحديث وهو قد يوافق الواقع؟! والمعنى - والله أعلم - أن الله تعبدنا بالوسائل كما تعبدنا بالغايات، والظن السيئ وسيلة غير مشروعة في التعامل مع المسلمين وهو مقدمة لتتبع الجريمة ومحاولة التصدي لها، ولذا كان الظن من أكذب الحديث، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم أثم صاحبه كإثم أشد الكذابين سواء صدق هذا الظن أم لا، وافق الواقع أم لا، فالإثم متعلق بالظن السيئ. ولأننا نتحدث عن سوء الظن فإنه لا بد لنا أن نعرج على ثمراته القبيحة وأولها (التجسس) وقد نهى الرسول الكريم صراحة عن التجسس فقال: «.. ولا تحسسوا ولا تجسسوا..» وهذه كلمات زاجرة ونهي واضح وصريح في حق كل من يجوز لنفسه أو لغيره التجسس وتتبع عورات المسلمين وقد سترهم الله. والتجسس خصلة ذميمة توغر الصدور وتقضي على الثقة بين أبناء المجتمع المسلم وتمزق وشيجة المحبة بين أفراده وقد قال الإمام الغزالي في كتابة إحياء علوم الدين: (شرط الحسبة أن يكون المنكر ظاهراً للمحتسب بغير تجسس فكل من ستر معصيته في داره وأغلق بابه لا يجوز أن يتجسس عليه وقد نهي عن ذلك). وكثيراً ما يدفع الحماس المحتسب عند استخدام هذه الوسيلة المذمومة إلى الوقوع في محظورات كثيرة تجعله يتجاوز الضوابط التي وضعها الشارع الحكيم لحماية خصوصيات الناس. فالمنكر حرام، والتجسس بحثاً عنه حرام أيضاً، ولا ينبغي الوقوف في محرم مقطوع به عند صاحبه وهو التجسس للبحث عن محرم مظنون قد يكون موجوداً وقد لا يكون. هكذا يقرر علماء السلف الصالح هذه القاعدة العظيمة التي لا ينبغي أن يغفل عنها كل من يعمل في هذا الميدان، يقول القاضي أبو يلعى: (أما ما لم يظهر من المحظورات فليس للمحتسب أن يتجسس عنها ولا أن يهتك الأسرار حذراً من الاستسرار بها) وأضاف رحمه الله (.. وقد اختلف عن أحمد فيما ستر من المنكر مع العلم به، هل ينكر؟ فروى ابن منصور وعبدالله ابن الإمام أحمد في المنكر يكون مغطى مثل الطنبور وأشباهه فقال: إذا كان مغطى فلا يكسره) وقد جعل الإمام أحمد الاستتار مانعاً من الإنكار حتى لو علم وجود ذلك المنكر حفاظاً على خصوصيات الناس التي يسترونها ولا يعلنون عنها. والأحاديث في هذا المجال كثيرة وما سطره علماؤنا في هذا الصدد يحتاج إلى أسفار عظيمة وكلها تقنن الوسائل الواجبة الاتباع عند القيام بهذه الفريضة، وهل من يقوم بها يعمل لدى الدولة أم هو متطوع لذلك، وإذا كان متطوعاً: متى يحق له التدخل وإزالة المنكر بنفسه دون الرجوع إلى ولي الأمر؟ والحديث في هذا الجانب يطول ويقودنا إلى مزيد من التفاصيل التي ليس هنا مجالها. وأقف عند قول جميل وعظيم لقاضي القضاة العلامة الماوردي ذكره في كتابه الأحكام السلطانية حيث يقول: (فمن سمع أصوات ملاه منكرة من دار تظاهر أهلها بأصواتهم أنكرها خارج الدار ولم يهجم عليهم بالدخول، لأن المنكر ظاهر وليس عليه أن يكشف عما سواه من الباطن). ويذكر الإمام الغزالي نماذج للتجسس المنهي عنه إذ يقول: (فلا ينبغي للمحتسب أن يعترض رجلاً يسير مع امرأة دونما ريبة ويسأل التي معك، ولا أن يسترق السمع على دار غيره ليسمع صوت الأوتار، ولا أن يستنشق ليدرك رائحة الخمر، ولا أن يمس ما في ثوبه ليعرف شكل المزمار، ولا أن يستخبر من جيرانه ليخبره بما يجري في داره). هذا هو التجسس المذموم ولكن ما علاجه؟ إن علاجه في نقيضه وهو (الستر وعدم التشهير). إن صاحب المعصية الذي لم يجاهر بها ولم يبدها للناس، يكون الستر وعدم التشهير في حقه أولى، وهذا يعزز الحياء في نفسه ويمنعه من التبجح والمجاهرة بمعصيته، والنصيحة وعدم التشهير تولد في قلبه تعظيم دين الله وترشده إلى طريق التوبة بإذن الله، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: «من رأى عورة فسترها كان كمن استحيا موؤدة من قبرها» لذا كان الستر على مرتكب المعصية ضابطاً هاماً في فريضة الاحتساب. ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم القدوة الحسنة، فقد جاءه بعض الأنصار بمولى لهم قد زنا ليقيم عليه الحد، وأخذ النبي الكريم يسأله تفاصيل ما حدث رغبة منه صلى الله عليه وسلم في أن يفتح للرجل أبواب النجاة، والرجل مصر على إقراره بالزنا، فما كان من النبي إلا أن أقام عليه حد الرجم. لقد حد الرجل وانتهى الأمر ولكن الرسول الكريم، وهو الهادي ومعلم البشرية، لم يترك الأمر يمضي دون تنبيه، فيلتفت صلى الله عليه وسلم إلى مولى المحدود وكان اسمه (هزال) ويقول له عبارته التي كتبها الدهر بمداد من ذهب، وكانت قانوناً يحتذى للدعاة والمحتسبين على مر العصور «لو سترته بثوبك يا هزال لكان خيراً لك». إذاً فالرسول الكريم ينكر على (هزال) فعلته وتسليمه مولاه لإقامة الحد عليه ويفضل أن يستره وينصحه ويعظه لعله يتوب إلى الله. فالستر هو هدي المصطفى صلى الله عليه وسلم في الاحتساب على أصحاب المنكرات وهو القائل: «من أتى من هذه القاذورات شيئاً فليستتر بستر الله فإنه من يبد لنا صفحته نقم حد الله تعالى عليه». ومن هدي السلف الصالح أسوق هذه الحادثة وبطلها أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، الخليفة الراشد العظيم، فقد جاء في الخبر: «إن عمر تسلق داراً ليجد رجلاً وامرأة وشراباً، فقال عمر: يا عدو الله أظننت أن الله تعالى يسترك وأنت على معصيته، فقال الرجل: يا أمير المؤمنين إن كنت عصيت الله واحدة فقد عصيته أنت ثلاثاً، فقد قال الله تعالى: {ولا تجسسوا} وقد تجسست وقال: {وآتوا البيوت من أبوابها} وقد تسورت الحائط وقال: {يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتاً غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها} وأنت ما سلمت، فقال عمر: فهل عندكم منه خير إن عفوت عنك، قال: نعم. فعفا عنه عمر وخرج وتركه. هل أصاب عمر رضي الله عنه عندما ترك الرجل وشأنه أم أخطأ في ذلك؟ ما كان لعمر أن يعفو عن حد من حدود الله لولا أن خللاً عظيماً شاب الوسيلة (التجسس وتسلق الحائط وعدم الاستئذان) التي ضبط بها الجريمة، ولذا أقلع رضي الله عنه عن معاقبة الجاني كون الوسيلة غير شرعية ولا بد أن تكون الوسيلة مشروعة حتى يقع صاحب الجريمة تحت طائلة العقوبة. وعندما أخبر عمر رضي الله عنه أن أبا محجن الثقفي يشرب الخمر مع أصحابه في بيته، انطلق عمر حتى دخل عليه، فلم يرى إلا رجلاً واحداً عنده فقال أبو مجحن: (إن هذا لا يحل لك، قد نهاك الله عن التجسس. فخرج عمر وتركه). إنه لا ينبغي لأي مؤمن أن يفرح بضبط أخيه المسلم وهو قائم على معصيته ليسارع بفضحه والتشهير به وتسليمه حيث ينال عقوبته وإنما ينبغي أن يفرح بدعوته ونصيحته وتوجيهه لعله يتوب فيتوب الله عليه، فإن الله ابتعثنا دعاة وهداة، ولم يبعثنا جباة عتاة جبارين. وأقول: لا للتجسس.. لا لسوء الظن.. لا للتشهير والفضيحة.. لا للإضرار بصاحب المعصية لأن الإضرار به قد يمتد إلى أسرته وأبنائه وأقاربه وجيرانه وعشيرته ونقول: نعم للتستر.. نعم للنصيحة.. نعم لإنقاذه مما هو فيه فهذا هو هدي نبينا محمد صلى الله عليه وسلم: «ومن ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة». فلماذا لا يحدث هذا ونخلص نوايانا لله ونفرح بتوبة التائب ونضبط تصرفاتنا بهدي منضبط من كلام الله وسنة رسوله. إن التجديد في الوسائل التوعوية والدعوية وآليات العمل الإسلامي بشقيه الفرضي والتطوعي مطلب ضروري تقتضيه الحاجة الزمانية والمكانية وأن التركيز على الجانب الدعوي أدعى في استمرارية قيام مجتمع إسلامي ناضج ومتكامل ولا يعني هذا إهمال فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بل الرفع من إمكانات جهازها ودعمه ضروري. ويعلم الله أني لم أقصد من مقالي هذا إلا الخير.. فالنقد ليس مذموماً.. والموضوع يحتاج إلى بسط وطرح أشمل وأوسع.. والباب مفتوح لكل من أراد أن يطرقه.. أما أنا فإن أصبت فمن الله وإن أخطأت فمن نفسي والشيطان، وأختم بقول الإمام الجليل العلامة ابن الجوزية في كتابه (الطرق الحكيمة) حيث يقول: (الشريعة الإسلامية مبناها وأساسها الحكم ومصالح العباد، وهي عدل كلها ورحمة كلها فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور وعن الرحمة إلى ضدها وعن المصلحة إلى المفسدة وعن الحكمة إلى العبث فليست من الشريعة). والله من وراء القصد.