لا يُواجه الإنسانُ شيئا أشدّ عليه من تحرير رأسه من المألوف الفكري الذي صار بالإلف عمودا من أعمدته! يُخيل إليّ وإليك أنّ تحرير أنفسنا من الوعي القديم سهل ويسير، كل ذلك يحدث ويدور في أذهاننا؛ لأننا لم نخض يوما هذه التجربة، اسأل من تغيروا كيف تغيروا؟ اسأل من خاضوا تجربة تغيير أديانهم مثلا، أو اقرأ شيئا مما كتبوه في مكابدة الصيرورة والتغير قديما وحديثا، إنك حينئذ ستدرك وعورة تغيير الأفكار والقناعات، حقا من الأمر كانت أم باطلا! إننا مع قناعاتنا وأفكارنا القارّة أشبه ما نكون واسمحوا بلطفكم لي بمتعاطي المخدرات؛ لكننا لا نخضع لبرنامج تأهيلي يُعالج الآثار الانسحابية، كما يحدث مع متعاطي المخدرات، وقانا الله تعالى شرها. من أوضح الشواهد على عُسرِ التغيير في تأريخنا القديم، وسيأتيكم حديث تأريخنا الحديث، مكثُ الرسول عليه الصلاة والسلام ثلاثة عشر عاما يدعو قريشا وأهل مكة، إنها مدة طويلة؛ لكنها لم تُثمر شيئا مذكورا في مدافعة مألوف قريش وأهل مكة، لقد تغلّب المألوف على دعوة الحق، وظل رُوّاد الدعوة الجديدة في نهاية المطاف لقلتهم غير قادرين على الدفاع عن أنفسهم، وحفظ حقوقهم، مما اضطرهم في الختام إلى الهجرة! هجرة إلى الحبشة، وهجرة أخرى إلى المدينة. ذلكم كان شاهد القضية من القديم، وفي العصر الحديث يبدو لي الصراع بين أطياف المجتمع خير برهان على ذلك، إنّ ما يجري بيننا من تقاذف السباب والشتائم، ليس سوى صورة من صور صعوبة التغيير، بل إنك واجد مثلي قوما كان المظنون بهم الرفق بالناس والحدب عليهم؛ لكنهم يهجمون عليهم بشباك من المصطلحات! تفغر أفواهها عن سب وشتم ديني، وما كان لهذا وذاك أن يلجأوا إلى ما ترى، لولا صعوبة تغيير أنفسهم، وعسر ذلك على أذهانهم، آمنوا بما هم عليه إيمانا، يرفع عنهم الحرج حين يتحدثون عن الناس بكل نقيصة ومذمة. إنّ هذه الوعورة والشدة وجرّب أن تُغيّر قناعاتك المذهبية أوتخيّل ذلك هي التي جعلت للأولين من المؤمنين منزلة خاصة؛ جزاء وِفاقا لما عانت أنفسهم، وتعبت قلوبهم وراء التغيير، ولم يكن لأولئك الذين يأتون بعد استقرار الأمر من الأجر مثل ما كان لهم! إنّ من لا يُعاني التحول في قناعاته يظل ساذجا في تعامله مع من تحوّل! ولن يستطيع يوما أن يفهم أحواله إلا ما شاء الله حتى يأتي عليه من الحال مثلُ ما أتى على ذلكم الرجل، وحتى يُكابد مثله في ذلك السبيل. إذا كانت هذه هي حال الإنسان مع التغير، فإن التغير في الدين أشدّ أنواع التغيرات، ولهذا ترى رجالا من العظماء قديما وحديثا، درسوا الأديان كلها؛ لكنهم آثروا البقاء على ما كانوا عليه، ومن أولئك المصلح الإنساني العظيم غاندي الذي انتهى إلى أن الديانات العظمى جميعا موحاة من عند الله تعالى وأنه لا خير في تحوّل الإنسان من دين إلى دين، إن حال غاندي وغيره من رجالات التأريخ الإنساني تُوضح بجلاء صعوبة التنقل، ولهذا كان غاية ما يُطلب من الإنسان إن لم يؤمن بالدين أن يُهادنه، ولا يقف في طريق انتشاره، ذاك ما يُطلب منه، فما الذي يُطلب من صاحب الدين والداعي إليه؟ إنّ الداعي إلى الدين ينتظر منه أن يُدرك كأداة التغيير على الناس، فيبذل ما في وسعه، يفرح بالمطيع، ويُهادن المحايد، ويستجره إن استطاع برفق إلى التماهي مع دعوته؛ ليكون له عونا، وإن لم يقنع بها، ويرتح إليها، هكذا أحسب يكون تعامل الداعي مع قوم لم يؤمنوا ولم يُؤذوا، وليس كما نسمع في خطابنا الديني في قنوت رمضان وخطب الجمع،ذلكم الخطاب الذي يحوي أدعية أضحى من اللازم فيها عند كثير من أئمة المساجد أن يدعوا على غير المسلمين جملةً، يدعوا عليهم بالذل والهوان وسوء الحال، وتكون الحال أسوأ ولم أشهدها لو كانت هذه الأدعية تجري على الألسنة في بلاد المسلمين التي يكون معهم غيرهم فيها من أهل لسانهم ولغتهم! إنني حين أسمع هذه الأدعية أقول في نفسي: أأصبحت هذه الأدعية جزءا من دين الله تعالى ؟ أأضحت ركنا من أركانه أم واجبا من واجباته؟ ما الذي يدعو بعضنا إلى تعميم الدعاء على أمم الأرض التي لا تؤمن بديننا؟ ثم هل في أدعية الأمم الأخرى مثل ما نسمعه من بعضنا؟ وإذا جاز أن يكون في أدعيتهم ذلك أيجوز مثله في ابتهالات أهل الدين الخاتم دين الرحمة والرأفة والحدب على الناس؟ أيحسن مثل ذا في دين ما جاء رسوله إلا رحمة للعالمين؟ أحسب الإنسان لو كان يستحق لكفره وعدم إيمانه أن يُدعى عليه لما كان هناك مسوغ للدين، ولما كان ثمّ مبرر للدعوة برفق إليه، فالدين والدعوة ما قاما إلا هداية لمن أراد الهداية، وإرشادا لمن يبتغي الرشاد، يُزكي هذا المعنى، ويزيده وضوحا أن ترى الله تعالى يأذن لنبيه بالشفاعة لعمه مع موته غير مسلم، فلو كان غير المسلم يُدعى عليه لعدم إسلامه لما رأينا هذه الشفاعة تصدر من أب التوحيد ومعلمه! إنّ هذه الشفاعة يحسن بنا أن نتخذها منطلقا لنا للتعامل مع أولئك القوم الذين يُخالفوننا في الدين؛ لكنهم يقفون معنا ومع قضايانا، أويُخَلّون بيننا وبين سبيل الدعوة، إنّ أبا طالب قدّم نموذجا في القديم؛ لكنه نموذج يتكرر في الحياة، لست أدعو إلى أن نشفع لأمثاله، فما في أيدينا مثل ذاك الحق؛ لكن ليكن لنا معهم حال من الودّ نكسبهم بها، فنحن في زمن تصنع فيه العلاقات الودية شيئا عظيما، إنّ في مقدور محب واحد مع ثورة الاتصالات اليوم أن يوصل عن دينك ودعوتك رسالةً، تُسرّ بها، إلى أمم من الناس كثيرة. ويزداد هذا المعنى وضوحا حين تقرأ قول الرسول عليه الصلاة والسلام في البخاري عن أهل الطائف حين أتاه ملك الجبال فقال له:" إنْ شئت أن أُطبق عليهم الأخشبين" فما كان منه إلا أن قال:" بل أرجو أن يُخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئا" يُؤذى ويُوقف في وجهه، وهذا جوابه! فما بالنا نحن اليوم نعيش تحت المكيفات، ونقف أمام لواقط المساجد ندعو على كثير من أمم الأرض بالذل والهوان؟! لم تكن تلك الحادثة غريبة في حياته، فقد جرى له في أُحد ما جرى؛ لكنه قال: "اللهم اغفر لقومي فإنهم لَا يعلمون" إنها قولةٌ عظيمة، أفلا يكون لنا نحن المسلمين نصيب منها في النظر إلى أمم الأرض، نصيب من تلك الروح المحبة المشفقة على العالمين، إنّ أمم الأرض اليوم هم قومي وقومك بعد أن أضحى الأقربون كلهم من المؤمنين، إنّ على الداعية اليوم أن ينظر إلى هذه الأمم كما كان قدوته ينظر إلى قومه من قريش وغيرها.