سقوط نظام القذافي هو إحدى بشائر العصر الجديد الذي نهض ليكفكف العسكر الذين اكتسحوا المشهد السياسي العربي، ويعيدهم إلى ثكناتهم، ليتم استبدالهم (على أرضية حرة محررة) بالقواعد والأسس الأولى للدولة المدنية الحديثة، بدستورها وقانونها، ومؤسساتها المستقلة. مع سقوط النظام الليبي السابق سيأخذ العالم العربي طريقه للتحرر من الاستعمار العسكري الذي قبض على عنق الدول العربية بقبضة حديدية، جففت منابع الابداع، ومنعت الحراك الفكري والسياسي التقدمي، وحجبت طيف التعدية الاجتماعية بثرائه وغناه، هشم العسكر الأحزاب السياسية، وهمشوا المؤسسات المدنية التي كان من الممكن أن تكون محاضن لفكر التنوير، منجل العسكر قصقص براعم المشاريع التنموية وصبغ وجه المجتمعات باللون الكاكي الوحيد استجابة لقوانين الميدان، وبقيت المجتمعات العربية مكبلة بالتخلف الحضاري وفكر الخرافة. زمن العسكر لبست فيه الرؤوس خوذة عسكرية فلم تعد تفكر وتنقد وتسأل وتحتج، بل كانت تسير في صفوف طويلة خاضعة خانعة تسبح بحمد القائد العسكري المهيب. مع انتهاء زمن العسكر، سيتخلص العالم العربي من التلوث اللغوي وازدحام المشهد السياسي بالخطب الرنانة، لن يعود هناك معارك وهمية مع إسرائيل على أرض الخيال والمزايدات والبطولات اللغوية، كذريعة لتجييش المجتمع واقسار البلاد على الدخول في حالة حرب (وهمية) مع إسرائيل تكفل للنظام تغييب أي مخالف أو محتج بذريعة الخيانة. يظل للعسكر ذهنية مغامرة توسعية تنخفض فيها القيم والمبادئ، أو حتى مكر الفكر ودهاء السياسة، ويحل بدلا من هذا الإرغام ولي الأيدي، نابليون كان جنديا طموحا قفز على مبادئ الثورة الفرنسية وحجبها خلف ضجيج مدافعه ومن ثم توج نفسه امبراطورا على فرنسا وانتهى به الأمر حسيرا مدحورا في جزيرة سانت هيلانة، والقذافي تقمصه نفس شيطان العسكر، فهو نفس ذلك الجندي الذي قفز على عرش الحكم إلى أن توج نفسه على قارة كاملة كملك ملوك افريقيا. الديكتاتوريات العسكرية تتهاوى في العالم العربي، بعد زمن ليس بالطويل من ترويض وقصقصة أظافر وخلع أنياب المؤسسة العسكرية في تركيا، ومازالت الذاكرة قادرة على استرجاع سقوط عسكر آسيا في الفلبين وبورما على سبيل المثال، أما ارشيف الرعب العسكري في دول أمريكا اللاتينية فهو حافل بالتاريخ الدامي حيث الفساد والحكم المستبد وأسلوب الإبادة والاستئصال ضد كرامة وحقوق شعوبها. أين اويغستو بونشيه في تشيلي، ودانييل نورييغا في بنما، وبيرون في الأرجنتين؟ لم يعودوا موجودين سوى في روايات عظماء روائيي أمريكا اللاتينية، ولم يعد للجنرال من يكاتبه. عاد العسكر إلى ثكناتهم، ونهضت الشعوب لتطالب باحترام حقوقها في أن تحكم نفسها. وأغلق سيرك القذافي بوابته، وجمع بهلواناته ومهرجيه، وأسوده ونموره.. ورحل، وفقد العالم العربي فقرة ترفيهية مهمة من برنامجه السياسي.