زارني مرتين في منزلي، الزيارة الأولى قبل عامين، والزيارة الأخيرة قبل أيام، في الزيارة الأولى كان محبطاً متشائماً، وفي الزيارة الأخيرة كله حيوية ونشاط. هذا الشاب السعودي تخرج في جامعة الملك سعود قبل أعوام بتخصص معالج طبيعي، والتحق بأحد المستشفيات الكبيرة ، يقول هذا الشاب: في المرحلة الثانوية كنت أعطي الحد الأدنى من الجهد، ولم ألتفت للدراسة إلا في آخر سنة لغرض رفع المعدل فقط، وفي الجامعة كنت أفتقد الجدية حتى قيض الله لي زملاء أخذوا بيدي إلى عالم الكتب واستثمار الوقت ما أهلني للتخرج بمعدل جيد وعقلية مختلفة، بدأت العمل في ذلك المستشفى وكلي حماس ونشاط، لكنني صدمت بالروتين القاتل وقلة الاهتمام بالمرضى، كتبت أنا وزملائي الكثير من المقترحات والطلبات ولكن كانت الآذان مغلقة، والأولويات لدى الإدارة مختلفة، طلبنا الاجتماع إلى المدير فلم يجب طلبنا، بدأ الإحباط يتسلل إلينا، بدت لنا الحالة وكأنه ميؤوس منها، هل تصدّق أن بعض العمليات تكلف المستشفى أكثر من مئة ألف ريال، وبعد العلاج الطبيعي حين نعطيه عكازاً بمئة ريال نطلب منه إعادتها ووضع تأمين لضمان ذلك؟! المدير الناجح هو الذي تسري في دمائه روح القيادة والتجديد والشجاعة والنزاهة والاستقامة، وبلادنا والحمد لله تزخر بالكفاءات المتميزة الشابة التي تنتظر إعطاءها الفرصة لقيادة منشآت القطاع العام والخاص إلى مستوى ما هو لدى الدول المتقدمة، المهم هو حسن الاختيار والتغيير المستمر والمحاسبة وستكون النتائج واعدة بإذن الله. روتين قاتل وسياسة مالية عفا عليها الزمن. قلت له: ولكنني أراك في هذه الزيارة تشع حيوية وحماساً، أجاب: لقد انتقلت من هذا المستشفى بفضل الله ثم بفضل محادثة من أحد الزملاء إلى مستشفى الملك فهد بالحرس الوطني، لم يتحسن الراتب فقط بل وجدت التقدير والحماس وحب التعاون وروح الفريق، هذا المستشفى يزوره كل عامين فريق مختص من دولة متقدمة لاعتماد وتطبيق معايير الجودة، ويحصل على معدلات تفوق بعض المستشفيات في الدول المتقدمة، قلت له: أكيد أن الإدارة أجنبية؟ أجاب: بل إدارة وطنية لكن المعايير والتدريب وضعت أسسها من قبل إدارة أجنبية سابقة، ثم أضاف: الشاب السعودي لا حد لعطائه إذا وجد التقدير والتدريب والراتب المجزي والمحاسبة، والدليل على ذلك ما نراه في أرامكو وسابك وفي البنوك التجارية. قلت له: إن ما يشكوه مستشفاك السابق هو مرض مزمن تشكو منه الكثير من مؤسساتنا الحكومية، وأظن أن معظم سبب الفشل والإخفاق في إعطاء المواطن ما يستحقه من خدمة يتمثل في الأسباب الآتية: 1.الدولة رعاها الله تصرف بسخاء لكنني أضع ثمانين في المئة من التقصير على عاتق إدارة المنشأة، المدير هو المسؤول الأول عن نجاح أو فشل مؤسسته، بعض المديرين لا يعرف المهمة الأساسية للمنشأة، أهم ما في الجامعة والمدرسة هم الطلبة، وأهم ما في المستشفيات هم المرضى، وأهم ما في الدوائر الحكومية التي تقدم خدماتها للناس هم المراجعون، وأهم من في المطارات هم المسافرون وهكذا، لكن للأسف بعض المديرين يهتم بنفسه وعلاقاته ضمن دائرة ضيقة، وينسى المهمة التي من أجلها وجدت هذه المنشأة، ولأجلها منح الإمكانات الكبيرة. بعض المديرين ينزل من سيارته إلى المكتب ومن المكتب إلى صالة الاجتماع ومنها ثانية إلى المكتب. وبعضهم يغلق عليه باب مكتبه ليتفرغ لأعماله الخاصة مخلاً بأمانة عظيمة سيسأل عنها يوماً ما.. المدير الناجح هو الذي يتواجد حيث يتواجد الذين لأجلهم وجدت المنشأة، بدءاً بغرف العمل وانتهاء بدورات المياه. فهو المسؤول الأول عن كل ما يحدث داخل منشأته، ولا أحد يهتم إلا بما يراه ويؤكد عليه المدير. 2.طريقة اختيار القادة والمديرين هي أخطر وأدق مراحل الإصلاح الإداري، وما لم نتبع أسلوباً علميا لتقييم الموظفين ومعرفة المتميزين الأكفاء منهم ورعايتهم وتهيئتهم، فسنظل نختار على أسس غير علمية، كطول فترة الخدمة والمعرفة بالشخص والقرابة وغير ذلك. 3.طول فترة بقاء المدير أو القائد أو المسؤول في الوزارة يقتل فيه روح التجديد والإبداع، ويطفئ جذوة الحماس، يأتي إلى المنصب متحمساً متحفزاً وبعد ثلاثة أعوام أو أربعة يعتاد على روتين معين وجدول مناسب، ، ويصبح ملماً بكل الروتين الموجود ومستميتاً في حراسته والدفاع عنه، وقد ينصرف إلى مصالحه الخاصة يعطيها جلّ اهتمامه وهذا بداية الفساد بنوعيْه الإداري والمالي. 4. غياب مبدأ الثواب والعقاب يجعل الموظفين سواسية، بل إن المهمل أحياناً هو الذي يحصل على الدورات والإجازات ما يسبب إحباطاً للمجتهدين، وفي النهاية قد يصل الكسول إلى قمة هرم المنشأة لخلو ملفه من أي ملاحظات تدل على تقصيره مع غياب التقييم العلمي والمتابعة. المدير الناجح هو الذي تسري في دمائه روح القيادة والتجديد والشجاعة والنزاهة والاستقامة، وبلادنا والحمد لله تزخر بالكفاءات المتميزة الشابة التي تنتظر إعطاءها الفرصة لقيادة منشآت القطاع العام والخاص إلى مستوى ما هو لدى الدول المتقدمة، المهم هو حسن الاختيار والتغيير المستمر والمحاسبة وستكون النتائج واعدة بإذن الله. التغيير يجب أن يتم سريعا بعد دراسة متأنية، والسرعة والتأني لا تعارض بينهما إذا اتبعت الطرق العلمية للتغيير وحدد الوقت. سُئل حكيم صيني: ما هو أفضل وقت لزراعة شجرة؟ أجاب: أفضل وقت هو قبل عشرين عاما، وأفضل وقت بعده الآن. الإدارة الناجحة هي التي ترسم البسمة على شفاه كل مريض وكل طالب وكل مراجع للمنشأة. يبتسم طالب الخدمة حين يعامل كإنسان له واجبات وعليه حقوق. ودعتُ زائري الشاب ووعدته أن أنقل تجربته إلى من بيده القرار وها أنا أكتبها لعلها تسهم في الدفع بمسيرة الوطن إلى مصاف الدول المتقدمة؛ حيث التخطيط الجيد والوفرة والرخاء.