لماذا يقدم معظم إنتاج العام، إن لم يكن كله، في رمضان ويعاد اجتراره في بقية أشهر السنة؟. تقول الحكاية القديمة أن شركات الإعلانات قالت إن شهر رمضان هو أكثر أشهر السنة متابعة للتلفاز، ولهذا من يريد أن يحصل على أكبر حصة من الإعلان عليه الإنتاج في رمضان ولكن الحكاية القديمة كانت تحدد فترة ما بين المغرب والعشاء لهذه الكثافة ولهذا كانت القنوات تتنافس في الإنتاج لهذه الفترة بأعمال خفيفة تروّح فيها عن المشاهد بعد نهاية يوم صيام طويل وقبل ليل قيام طويل ولكن الأمور تطورت وبدأ الزحف الترفيهي يجتاح كل ساعات الليل وعندما أنهاها اجتاح ساعات النهار واجتاح الترفيه كامل ال 24 ساعة ولأن كل قناة تنفرد بأعمال لا تعرضها القنوات الأخرى فأصبح بإمكان المشاهد أن يضع جدولاً ليشاهد أعمالاً جديدة وعلى مدار الساعة وتحول هدف ما تبثه القنوات من ترفيه للصائم إلى إشغال له. لو افترضنا ان القنوات التي تود أن تنفرد بإنتاج متميز في رمضان هي 40 قناة من أصل 700 قناة عربية وعلى اعتبار أن كل قناة ستنتج ما بين 5 إلى 10 أعمال وعلى اعتبار أن تكلفة العمل الدرامي الواحد تتراوح ما بين مليونين إلى أربعة ملايين دولار وبعضها أكثر من هذا بكثير، فإن كل قناة تحتاج إلى ما لا يقل عن 20 مليون دولار كميزانية لأعمال رمضان فقط، أي 800 مليون دولار لكل القنوات، وهذا يعني ثلاثة مليارات ريال كحد أدنى، أي أن الإنفاق اليومي هو 100 مليون ريال أو بمعنى آخر أربعة ملايين في الساعة أو 70 ألفاً في الدقيقة (يا بلاش). هذه الميزانية هي كامل ميزانية العام لهذه القنوات تخيلوا أنها كلها موجه لكم لترفيهكم في شهر ليس المطلوب منكم فيه الترفيه ولكن هكذا أراد صناع الإعلام والإعلان، وستكبر كرة الثلج عاماً بعد عام فما ينتج اليوم بثلاثة مليارات سينتج في العام القادم بأربعة مليارات، وعلينا أن نتوقف وأن نحوّل هذا الأمر إلى هم عربي يحتاج إلى النقاش وصولاً إلى ترشيد الميزانيات الرمضانية وتخفيف الجرعات الترفيهية وتوزيعها على بقية أشهر العام التى يتفاوت رصيد أيامها في الطاعات ولا تحظى بميزة أيام رمضان التى عشرها رحمة وعشرها مغفرة وعشرها عتق من النار. مسلسل هوامير الصحراء إلى أين تذهب هذه المليارات؟. انها تذهب أجورا للممثلين والكتاب والمخرجين وبقية الطواقم الفنية والحصة الأكبر تذهب إلى جيوب المنتجين بعد أن تقتص منها حصص للمنتفعين الذين في يدهم مفاتيح الأبواب المغلقة إلا من رحم ربي وعفت نفسه!. دعونا نناقش ما نشاهده في رمضان؛ رغم أن هذا أمر لا يمكن الحكم عليه إلا لشخص قرر أن يبقى أربعا وعشرين ساعة أمام التلفزيون، ولا أحسب أن بيننا من يستطيع ذلك ولكن لابأس من بعض الانطباعات التي تختلف حسب اهتماماتنا وميولنا ودرجة متابعتنا لما نرى، فالغالبية منا تتابع قنوات بعينها وقد تفوتها أعمال متميزة في قنوات أخرى والأكثرية تتابع أعمالاً تتكرر أجزاؤها عاماً بعد آخر. انقسمت الدراما في هذا العام الى عدة أقسام الدراما التاريخية والتراثية والاجتماعية ودراما القصور والكوميدية وهي تخصص سعودي في المقام الأول. الدراما التاريخية انقسمت بدورها إلى ثلاثة أقسام التاريخي الإسلامي الذي دخل منذ عدة أعوام في دائرة المحظور عبر تجسيد شخصيات الصحابة رضي الله عنهم زحفاً إلى الأنبياء عليهم أفضل الصلاة والسلام، وفي هذه السنة ظهر علينا مسلسل "الحسن والحسين" رضي الله عنهما، وما نسمع عنه عبر المنتديات الإلكترونية، أنه مرفوض من الشيعة ومن السنة على حد سواء. أما القسم الآخر فذهب لتوثيق سيرة حياة مشاهير ولا يخلو عام من الأعوام من حياة مطرب أو مطربة ولا أعلم حقيقية ما الذي يمكن أن يضيفه لي كمشاهد مثل هذا النوع من الأعمال التى لا تتناسب بأي حال من الأحوال مع روحانية هذا الشهر الفضيل. أما القسم الثالث فذهب إلى قصص من التراث وتتفاوت جماليات القصص وأسلوب التنفيذ من منتج إلى أخر وفق حجم الميزانيات المبذولة فيها. أما الدراما الاجتماعية فالمصرية منها بدأت تجتر قصصاً قديمة كمسلسل "الرياّن" مثلاً ففي الوقت الذي نود أن نعرف من سيخدعنا غداً أو من يخدعنا الآن نشاهد أعمالاً تُعرفنا بمن خدعنا وضحك علينا قبل عدة عقود وتنكأ جروح مساكين ضاعت "تحويشة عمرهم"، فماحاجتنا إلى رياّن رحل وانتهى في الوقت الذي يوجد فيه ألف ريّان آخر يعيثون في الأرض فساداً. لم تبتعد الدراما السورية كثيراً عن "باب الحارة" فهي لا تزال تدور في فلكه حتى وإن توقفت الأجزاء وتغيرت الأسماء بقيت الأحداث كما هي؛ صراعٌ على زعامة الحارة وشخوص تفتل الشوارب وتعيش صراعاً بين الرجال وأنصاف الرجال. أما المسلسلات الخليجية غير السعودية فلقد تخصصت في النكد وهذا يتعارض مع فكرة الترفيه الرمضاني حيث لا يخلو أي مسلسل من الدموع (والطراقات) وبدأت تقدم لنا قصص فيها كثير من الغرابة والبعد عن قيم هذا المجتمع، فالظلم هو السائد ونحن نعرف أن الحياة فيها الخير وفيها الشر، وفيها الظالم وفيها المظلوم، وفيها كثير من السعداء وكثير من الأشقياء فلماذا لا نشيع جو التفاؤل في الحياة بدل هذا السواد المقيت. أما دراما القصور السعودية والمغربية وهي الفن الدرامي الجديد فلقد انظم لمسلسل القصور السعودية مسلسل إماراتي بعنوان "كريمة" يدور في القصور المغربية وقد قوبل هذا العمل بعدم الرضا من المجتمع الإماراتي من تقييم للإنسان الإماراتي كرجل باحث عن الملذات وتقديم أشقائنا في المغرب بما لا يليق بهم حتى ولو كانت الرواية قصة حدثت لشخص فالدراما للأسف تطبع هذه الشخصية على كافة افراد المجتمع وتتحول من حكاية شخص الى حكاية مجتمع ومن المعروف ان الأعمال التلفزيونية تضر بالروايات حيث أنها لضرورة التشويق والتمطيط تضيف أحداثاً غير حقيقية. ونأتي لدراما القصور السعودية فأول مرة أرى أن من يخدع الناس ينصحهم!. حيث نرى في "الهوامير" ذلك الإقطاعي الذي يبحث عن المال بأي طريقة يبذل الخير وتحدث عن التوطين وعن العدل وهو يقتل كل من يعترض طريقه، والغريب أن العمل يقول إن الأحداث تدور في مدينة الرياض؛ الناس تسقط قتلى ولم نر شرطياً واحداً يحقق أو يدقق! والفتيات في مكاتبهن مع موظفيهن بلباس عصري، والشيخ الذي ينفق المليارات يخشى من شخصية أخرى ترك لنا الكاتب حرية اختيارها!. ما نراه على الشاشة قد يكون موجوداً لدى البعض لكنها في الحقيقة أحلام كاتب يحلم بمجتمع غربي على أرض سعودية فاقتبس من أفلام المافيا الأمريكية حكاية وسعودها، إنها حكاية اقتبسها (ابو عراب) من العراب. ويبقى لنا أساس فكرة الإنتاج الرمضاني الذي يقدم بعد المغرب وهي الأعمال الكوميدية وهذه كما يبدو اختصاص سعودي في المقام الأول فكثرت الأسماء وتعددت الاتجاهات فالكل تحول إلى ناقد والكل ينسب إلى نفسه تغيير السلبيات والكل يعتقد أنه يقدم جرعة كوميدية عالية ولكنهم يتناسون كل عام أن مفاهيم الجمهور تتطور بينما أدواتهم لا تزال ثابتة فما يضحكنا بالأمس لا يؤثر علينا اليوم وقضايانا نفهمها ولكن من يريد أن يوقظ بعض الغافلين فلتكن هزته قوية وهذا ما لا نراه. العمل الشهير "طاش" تراجع كثيراً ولم تعد تشفع له جودة بضع حلقات أن يمرر علينا كل حلقاته فهو بعد خبرة هذه السنوات يفترض أن ما يقدمه في تصاعد ولكنه كمؤشر سوق الأسهم إن ارتفع يوماً هبط بقية الأسبوع ولهذا أصبحت الأعمال الأخرى ترى أنها منافس قوي له لا لجودتها ولكن لانخفاض مستواه. إن ما نراه من أعمال سعودية هو مجرد عناوين براقة ولكننا لا نرى طرحاً متميزاً فلو سألتك عزيزي القارئ ماذا يزعجك لعددت لي في دقائق عشرات الأمور التي تندرج تحت الفساد المالي والإداري وسوء التنظيم وسوء التخطيط والإدارة والبطالة وعدم تكافئ الفرض والروتين القاتل.. الخ. وأنت لا تريد من الأعمال النقدية أن تطرح لك عناوين تعرفها وتعيشها لقد قلت لك أنك تريد صوتا يوقظ حس الغافلين أو النائمين وهذا لا يأتي عبر طرح سطحي ولا يأتي عبر طرح المشكلة من دون البحث في أساسها ولكنه يأتي عبر الذكاء في تناولها من أكثر من زاوية وصولاً إلى المسئول عنها فلعل ضميره يصحو. في النهاية نتمنى لكل من اجتهد أن يحصد الرضا وأن يرتقي مستوى ما نراه وتبقى عزيزي المشاهد الأهم في كل هذا فلقد بُذلت ثلاثة مليارات لإرضائك في هذا العام فهل أنت راض؟ إن لم تكن راضياً فأرجو أن تجد في الأربعة مليارات التي ستنفق في العام القادم ما يرضيك!.