كنت في مجلس لتعزية صديق في وفاة أمه، وحضر مسن من أقربائه. لفت انتباهي تكرار الأخير الدعاء (اللهم اسقها من عسل الجنة.. اللهم اسقها من عسل الجنة)، ثم تمتم «راحت أم الرجال.. راحت صاحبة عسل الجنة»! قادني الفضول فيما بعد إلى السؤال كيف تكون صاحبة عسل الجنة؟! قيل لي إن المرأة كانت كلما علمت بحلول فترة صيد طلبت من أحفادها هواة صيد الطيور أن يحضروا لها طائرا معروفا حتى الآن كواحد من أبرز الطرائد المرغوبة، هو نوع (مهاجر) أصغر قليلا من اليمام، وجميل يغلب عليه اللون الأصفر، ويشتهر في المملكة باسم الصّفَّارا، أو الصّفَاري، ويسمى في المصادر المتخصصة الصفارية الذهبية، ويعرف في بعض الدول العربية باسم عصفور التوت. لم تكن الجدة ترغب في أكل لحم الطائر، وإنما تحرص على تذوق مادة دبقة وحلوة الطعم توجد أحيانا على مناقير «الصفارا» وقد قيل لها في صغرها إن المادة ما هي إلا بقايا من عسل الجنة لأن الطيور؛ التي لا يعرف الأجداد كنه ظهورها في فترات محدودة من كل عام، تأتي هبة من الله على هيئة أسراب (منحدرة أو نازلة) من السماء. هذا تفسير عُرف قديما لدى أجدادنا لظاهرة هجرة الطيور. وحقيقة الأمر أن المادة الدبقة الحلوة هي بقايا من الثمار والفواكه الصغيرة التي يعتمد عليها هذا الطائر في غذائه كالتين والتوت والتمر. ثمة تفسير آخر لدى الأجداد لظاهرة هجرة الطيور فقالوا: هي تسكن في غيران وكهوف الجبال العالية ثم تهيض وتظهر في أوقات محددة وتنتشر في الأرض لتأكل وتشرب. ولايزال بيننا من كبار السن من سمع الأجداد وهم يقولون - في تفسير ثالث - إن بعض أنواع الطيور تكون معبأة في (زبلان: جمع زبيل وهو أداة قديمة لجمع الثمار والحبوب وغيرها)، وبأمر الله "تكب" الزبلان على المناطق التي يوجد بها الجياع. ولهذا نجد أن المصطلحات الشعبية التي لاتزال تستخدم حتى وقتنا الحاضر لوصف تجمع وانتشار أسراب الطيور، تستمد جذورها - فيما أرى - من أصل تفسير الأجداد لظاهرة الهجرة، فيما سيتبين في ثنايا المقال. لقد بدأت هذه الأيام بواكير الهجرة، وسوف نشهد خلال الفترة المقبلة في المناطق البرية والحقول والسواحل تتابع ظهور أنواع تعبر أجواء المملكة لتبقى متنقلة في أراضيها فترات تمتد من أيام حتى عدة أسابيع. ويحدث هذا العبور والتنقل عند الطيور بسبب عوامل بيولوجية ومناخية في فترتين من كل عام، الأولى في أغسطس حتى سبتمبر وأكتوبر فيما يسمى برحلة (الهجرة) من شمالي الكرة الأرضية إلى جنوبيها، والأخرى رحلة عكسية خلال أشهر مارس وأبريل ومايو فيما يسمى برحلة (العودة). ومع أن الطيور التي تعبر المملكة تبلغ مئات الأنواع إلا أن هواة صيد المصنف منها في موروثنا الشعبي كطرائد أكثر ما يهتمون بطيور الدخل وهي صغيرة لها أسماء مختلفة، إضافة إلى الصفارية الذهبية التي أتيت على ذكرها في أول المقال، فضلا عن الطريدة الأولى بلا منازع وهي القمري المعروف محليا بأسماء (القميري، والكرور، والرقيطي). عندما يتداول الصيادون أخبار تنقلات الطيور سواء كان ذلك في ميدان الصيد أو في أحاديث المجالس سوف يتردد فيما بينهم مصطلحات شعبية تستخدم لوصف حالات تتعلق بتحركاتها، وربما تسمع أحدهم يسأل آخر ما أخبار (الحدر)؟ أو هل جاءكم (نزل)؟ وقد يأتي صياد من رحلة ليخبر أقرانه بسرور بقوله جاءنا اليوم (كبة) في الوادي أو صادفنا (هيضة). فماذا تعني مصطلحات الصيادين الشعبية (الحدر، والنزل، والكبة، والهيضة)؟. مع التأكيد أننا نتناول في هذا المقال الكلمات من حيث استخدامها كمصطلحات شعبية، فلعل من المناسب ذكر بعض من معانيها التي جاءت في لسان العرب، فالحَدْر من كل شيء تَحدُرُه من أعلى إلى أسفل، والكَبَّة تعني الزِّحام، والكُب هو الشيء المُجتَمِع، أما الهَيض فهو من أسماء سَلح الطائر. وتستخدم كلمتا الحدر والنزل في المفهوم الشعبي بين أبناء البادية ويقصدون بشكل عام طرائد الصيد المذكورة آنفا، لكن الكلمتين تنصرفان أيضا إلى وصف وجود الطيور المهاجرة بكثافة أعلى من المعتاد. أما الصيادون من أبناء المدن والقرى فيستخدمون كلمتي (الكبة، والهيضة)، وهاتان الكلمتان لا تستخدمان إلا في حالة كثرة الطيور في عدة مناطق، بحيث يشاهد كل الصيادين ذلك وبوضوح. ولن تجد صيادا للطيور المهاجرة في الحاضرة أو البادية إلا ويضع في حسبانه التفاوت في أعداد الطيور خلال مواسم هجرتها، وهذا التفاوت ليس سنويا فحسب، بل لن يكون غريبا أن يجد الصياد في يوم ما أعدادا وأنواعا كثيرة من الطيور في منطقة ما في حين قد يندر وجودها في اليوم التالي، ولهذا يقوم بعضهم بتدوين اليوم الذي تكثر فيه الطيور خلال عبورها منطقة محددة ويقيس عليه متوقعا الكثرة في اليوم الموافق من العام القادم، لكنه يحتار عندما لا يتحقق ذلك، ولهذا يبقى مترقبا طريدته. هنا يبرز السؤال هل هناك معايير يمكن بواسطتها تحديد ملامح الهيضة أو الكبة أو الحدر أو النزل؟ الإجابة عن السؤال متشعبة وطويلة لكن يمكن اختصارها بالقول إن هناك عوامل تؤثر في سلوك الطيور أثناء قطعها لمسافات الهجرة، ومن أبرزها عامل درجات الحرارة، وكذلك وجود تيارات هوائية صاعدة على طول خط الهجرة، فبعض أنواع الطيور المهاجرة عريضة الأجنحة تقطع مسافة الهجرة مستفيدة من التيارات الهوائية الصاعدة التي تدفعها عندما تحلق على ارتفاعات شاهقة ثم تنزلق باتجاه خط الهجرة فاردة أجنحتها «بدون رفرفة» وذلك لتوفير جهدها وطاقتها، أما إذا ضعفت التيارات فإن الطيور قد تؤثر النزول إلى الأرض لبعض الوقت لحين توافر الهواء الصاعد الملائم لمساعدتها على الطيران من دون أن تتكبد الجهد الشاق. وهناك عوامل أخرى مثل سلامة البيئة في المنطقة التي تعبرها الطيور، وهبوب الرياح مع اتجاه خط الهجرة فضلا عن توافر الغذاء في الأماكن التي تستوطن فيها الطيور قبيل الهجرة، وهذه الأماكن بالتأكيد ليست في السماء بل في غابات وأحراش وبراري داخل القارتين الأوروبية، والأفريقية، وأجزاء من الشمال الآسيوي. بقي لي؛ متجاوزا طرفة وبساطة، أو وهم وجود العسل في مناقير الصفارا، الدعوة لأمهاتنا وآبائنا «اللهم اسقهم من عسل الجنة خالدين في فردوسها الأعلى».