في المدرسة كانوا يعلقون على الجدران لوحة (الوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك) ولكن القيمة الحضارية لتلك المقولة ظلت داخل اللوحة يعلوها الغبار ولم تغادرها إلى الفضاء العام لتصبح قيمة وممارسة تتخلل ثقافتنا وأسلوب معيشتنا , وبقيت علاقتنا مع الوقت تلك العلاقة المسترخية المتفككة , علاقة الصحراوي بكتلة الوقت الهائلة الرخوة يقلبها بين يديه بعبث، وهو يتأمل قطيعه وماشيته بمتوالية متشابهة كل يوم كأنها الأبد , او علاقة المزارع المطمئن إلى عالم بلا ضجيج، ساعات فقط يتكئ بعلاقته مع الوقت على مرور الفصول وتغير المواسم. ومابرحت مواعيدنا نربطها بمواقيت مثل (عقب العصر أو بعد الأخير) على الرغم من أن هناك بعد العشاء مدة ست ساعات , ول اأعتقد أن هناك من يستعمر وقت الآخر بالانتظار لمدة ست ساعات سوى لدينا. في الصيف الماضي أثناء رحلة للقطار من مدينة فرانكفورت الألمانية متجهة إلى امستردام الهولندية , توقف القطار في مدينة (كولون) ولكن ذلك التوقف تجاوز الوقت المعتاد بثلاث دقائق , ولما عاد القطار للمسير أمضى قائده مدة عشر دقائق من الرحلة وهو يعتذر للركاب عن التأخير، ويعدهم بأن شركة القطار ستقوم بتعويضات لمن سيفقدون مواعيد حجوزاتهم وارتباطاتهم نتيجة هذه الثلاث دقائق . بالطبع المشهد كان كالكوميديا السوداء بالنسبة لنا نحن القادمين من كتلة الوقت المسترخي الهادئة، والحجوزات الضائعة والمبددة بين التسويف ولعل وعسى , وساعات الانتظار المهينة في صالات المطار (لايوجد لدينا قطارات) وإلا لحظينا بصالات أخرى للانتظار المهين , والغموض وعدم التفسير وأسلوب (وش معجلكم والدنيا مهيب طايرة ) كجواب شاف من مقدمي الخدمة , وتسول الوساطات والتوسلات للحصول على مقعد في خدمة هي في الأصل من حق من سيدفع ثمن التذكرة. كان المشهد الألماني بالنسبة لنا متبجحاً كأنما يسأل أحدهم ماذا تقترحون أن يكون لون مقاعد طائرتي الخاصة لشخص بالكاد يحاول أن يبتاع دراجة هوائية. أعتقد أنها شطحة كبيرة أن نقارن علاقتنا بالوقت مع الالمان ذلك الشعب الذي يسطر يومه بدقة، ويعي تماما أن كل نبضة لعقارب الساعة يجب أن تنقله لمرحلة أكثر تقدما وتطورا وانتاجية في تاريخ الإنسانية سواء على المستوى الفردي أو مستوى الثقافة والتحضر والتطور التقني ....الخ , تلك الثقافة التي تستفز الوعي عندما تعلن مواعيد رحلات قطاراتها بالدقائق مثلا الثامنة وتسع وعشرون دقيقة , لتضبط بعدها ساعتك على صرير عجلات القطار المتحرك . هل علاقتنا مع الوقت هي جزء من الأزمة الحضارية التي تطوقنا , ونحن نرى هدر الزمن من عمر الشعوب يوميا وبشكل مستمر وبإصرار مستبد حتى بات نمطاً وأسلوب حياة؟! وعندما نتذكّر اللوحة المدرسية التي كانت تحذر من سيف الوقت ستبدو الثلاث دقائق الألمانية مستفزة لوعينا جداً..