لم يدر بخلد "أم بتول" أنها سوف تستقبل شهر رمضان الكريم بعيداً عن منزلها، وذلك بسبب خلاف عائلي بسيط لا يذكر بينها وبين زوجها، حيث أبدت رغبتها في زيادة مصاريف المنزل والأطفال، وهو مارفضه الزوج رفضاً قاطعاً، حتى تطور النقاش بينهما؛ مما أدى إلى قيام الزوج بضرب "أم بتول"، وطردها من المنزل في ساعة متأخرة من الليل، ودفعها إلى اللجوء للجيران الذين بدورهم حاولوا الإصلاح دون جدوى؛ فكانت نهاية تلك المشاجرة ذهاب "أم بتول" إلى منزل أهلها مع أطفالها الذي يسكنون بمنطقة أخرى. يعيش الكثيرون في هذا الشهر الفضيل معتقدين أن الصيام يتركز على الإمساك عن الطعام والشراب؛ دون محاولة جادة في استثمار الصيام لتنقية الأنفس من الأحقاد والتشاحن والبغض، سواء كانت صغيرة أم كبيرة، فالبعض لا يستطيع أن يصل إلى حكمة الصيام في رمضان، وأن النفس لابد أن تطمئن بإيمان الصيام الذي لايجزي أحد به إلا الله؛ لأنه فقط من يعلم نوايا وخبايا الأنفس. إن التسامح شيء كبير وتزداد قيمته في الحياة بصفة عامة وفي رمضان بشكل خاص، إلاّ أن البعض لا يصل إلى هذا المستوى من التصالح مع الذات؛ فيبقى في أحقاده وتحامله على الآخرين حتى برفقة الصيام.. ما الذي يدفع البعض إلى أن لايصلوا إلى مستوى التصالح مع النفس بالتسامح مع الآخرين؟، وأين أثر الصيام في السلوك؟، ثم هل يرغب البعض في التسامح لكنه لايجيد صناعة ذلك الُخلق؟. ويقول "أبو خالد" أصلي التراويح أنا وجاري القريب، ولكن للأسف كلانا لا يتكلم مع الآخر؛ فمنذ فترة حصل بين أبنائنا شجار بسيط أثناء اللعب أدت إلى تصعيد الخلاف بيننا، ولا نزال متخاصمين منذ سنة تقريباً، ويؤسفني أننا نصلي التطوع ونترك الواجب والفريضة، وهي حقوق الجار وعدم الهجر وأنها ترد العمل الصالح، ولكن كلانا يكابر عن المبادرة. فن التسامح لا يدركه إلاّ العظماء ويرى "د.عوض بن مرضاح" -المستشار الاجتماعي- أننا بحاجة إلى التماس الأعذار للآخرين والتغافل عن بعض كلماتهم أو تصرفاتهم, وهذه المبادرة في التسامح نحتاجها مع أبنائنا لنعلمهم تلك القيمة، إلاّ أن ما يحدث أن الأب يتتبع أخطاء ابنه ليرهقه بكثرة العقاب، وكأن هذا الابن ولد متعلماً، بل وكأن هذا الأب لم يؤمر بتربية أبنائه - وأي تربية هذه التي تجعل من العقاب الخطوة الأولى-، وبهذا يزرع الأب مشاعر الإحباط والدونية في نفسية هذا الابن. وقال:"إن التحامل على الآخرين يظهر في صور متعددة، ومنها تحامل الزوج الذي لا يغفل في تعاطيه مع زوجته أكثر التفاصيل دقة، سواء كان ذلك في تعاطيها مع المنزل أو أسرته أو إعدادها للطعام أو في عملها أو في تربيتها للأبناء، فمثل ذلك الشخص يكون كمن يحمل بيديه مجهراً يسلطه على تصيد أخطاء الغير؛ مما يولد التحامل في نفس الطرف الآخر، وذلك ما يحدث مع الزوجة التي تسيئ التعامل مع الزوج بالتضييق عليه، فيبدأ يتشكل التحامل بداخل النفس"، مشيراً إلى حديث أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-:(لا تظنَّ بكلمة خرجت من أخيك المؤمن إلاّ خيراً، وأنت تجد لها في الخير محملاً). وأضاف إن التغافل عن أخطاء الآخرين وهي اللبنة الأولى في بناء صرح التسامح؛ لابد أن يكون في جميع علاقاتنا مهما تنوعت حتى مع المدير وموظفيه، والموظفين مع من يرأسهم فالنية الحسنة هي من لابد أن تقود تعاملاتنا مع الآخرين. واشار إلى أن فن التغافل عن أخطاء الآخرين وتعميق معنى التسامح إنما يجيده الأذكياء العظماء من الناس، موضحاً أن التغافل الاجتماعي سبب في الراحة التي يشعر بها البعض في حياتهم، إلاّ أن ذلك التغافل لا يعني أن لا يسعى المرء لحل مشكلاته وتهميشها ولكنها وسيلة جيدة للتقليل من ضغوطات الحياة الكثيرة، مبيناً أن التسامح وفن التغافل يحتاجان للكثير من الممارسة وتدريب النفس عليها لكي ينجح. وقال "د.عوض" إن من يرغب بالتسامح فإن المبادرة خير وسيلة للتغلب على التردد دائماً، فالحياة تستحق منا أن نبادر فيها لنحقق ما نسعى إليه، مؤكداً على أن رمضان فرصة كبيرة لتحسين العلاقات الإنسانية، ولكن الأهم عدم انتظار مبادرات الآخرين، بل لابد أن يكون المرء سباقاً للمبادرة والصفح، ويقول النبى صلى الله عليه و سلم:(وما زاد الله عبداً بعفو إلاّ عزاً وما تواضع أحد لله إلاّ رفعه الله).