منذ السنوات الأولى في مقاعد الدراسة اعتدنا سماع قصص تاريخية مذهلة عن عظمة المسلمين وإنجازاتهم في العصور الإسلامية، وعن يتأثيرهم العظيم على الغرب وكيف أصبحت اللغة العربية واللباس على الطراز الإسلامي حتى في دول أوروبا علامة على تطور وثقافة الشخص. شعور رائع ومشهد من الصعب تخيله لعظمة ما يحمله من معاني القوة والسيادة التي تمتع بها المسلمون حين وحد الدين كلمتهم وشحذ هممهم جميعاً للعطاء والإبداع كلاً في مجاله. ولأن الصورة أبلغ من ألف كلمة نجد في عالم الفن دوماً ضالتنا، فاللوحات الأوروبية تعطي المشاهد تصوراً لذلك العصر حين كان نظام حياة المسلمين وأغراضهم اليومية موضة في أوروبا. فقد جرت العادة في عصر النهضة الأوروبية أن يطلب علية القوم من المثقفين والأغنياء رسمهم برفقة عدد من أغراضهم التي تشير إلى مكانتهم الثقافية والاقتصادية والتي كانت في معظمها مستوردة من العالم الإسلامي كما في لوحة (السفراء، 1533م) للفنان الألماني (هانز هولبن الأصغر) التي تمثل كلاً من (جان دو دنتوفيل) سفير فرنسا آنذاك إلى انجلترا وصديقه المطران (جورج دو سيلف) والذي عمل أيضا كسفير في عدة دول. حيث رسم الشابان برفقة أغراض مستوردة من البلاد الإسلامية للإيحاء بمدى ثقافتهما ومواكبتهما لركب الحضارة ونظراً لضخامة حجم اللوحة فإنه يمكن للواقف أمامها رؤية تفاصيل كثيرة جداً يستحيل عرضها في هذا المقال إلا أننا سنلقي الضوء على بعض منها. رسم هولبن اللوحة بناء على طلب (دو دنتوفيل) الذي أصبح سفيراً لفرنسا وعمره لم يتجاوز التاسعة والعشرين وبرفقته صديقه (دو سيلف) ذو الخامسة والعشرين مرتدياً رداء مستورداً من بلاد المسلمين. وقد أراد الفنان هولبن أن يبرر سبب تقلدهما هذه المناصب العالية بالإشارة إلى ثقافتهما وتعليمهما الراقي الذي اكتسباه بالدراسة والسفر بين البلدان فصوّر بينهما مجموعة من الأغراض التي يندر أن يقتنيها أحد آنذاك مالم يكن ذا ثقافة عميقة جداً. فالرف العلوي غطته سجادة عثمانية رائعة الزخارف وضع فوقها إسطرلاب وكرة تمثل المجرات السماوية ومجموعة من أدوات قياس الزمن، وهي جميعاً اختراعات ابتكرها المسلمون أو طوروها كانت قد وصلت حديثاً إلى أوروبا وساهمت في نهضتهم الجديدة بعد عصور الظلام. أما الرف السفلي فيحمل رموزاً تشير إلى الدين والعلم والحياة معاً، فهناك كتاب ديني وآخر في الحساب إلى جانب آلة العود وعدد من النايات التي شاع استخدامها في العصور الإسلامية المتأخرة، كما صورت كرة أرضية تؤكد قوة تأثرهم بالحضارة الإسلامية إذ عُرف عن علماء المسلمين بدءاً بالإدريسي شغفهم بصنعها واستخدامها في دراساتهم لدرجة ميل البعض إلى القول بأنها من ابتكارات المسلمين. ولما كان هولبن من فناني عصر نهضة العلوم والفنون معاً كان لابد من أن يستعرض هو أيضاً براعته حيث لم يكتف بمهارته الفنية في استخدام الألوان الزيتية التي كانت مخترعة حديثاً آنذاك، ولا مهارته في رسم المنظور وحساب الأبعاد الهندسية التي تجلّت في نقوش الأرضية، بل قام بخداع عين المشاهد برسم جسم كبير وغير مألوف على الأرضية في مقدمة اللوحة. هذا الشكل لا يمكن رؤيته بوضوح إلاّ عند الوقوف على بعد مترين إلى يمين اللوحة والنظر إليه، حيث يمثل جمجمة ضخمة اتفق معظم المؤرخون على أنها إشارة إلى الموت، في حين أن الرف العلوي للمنضدة بكل ما عليها يمثل السماء ويشير إلى الجنة، أما الأوسط فيمثل الدنيا بعلومها وثقافاتها ومتاعها. ويظن البعض أنه قد فعل ذلك لأن العمل كان سيتم تعليقه في منتصف سلالم أحد القصور فأراد هولبن أن يفاجئ من يهبط على السلالم بهذا الشكل ليذكره باحتمالية زوال الدنيا في أي لحظة. ومن أسباب شهرة العمل في أوروبا قيمته السياسية حيث أنه شاهد على ظهور طائفة البروتستانت التي نادت الكنيسة الكاثوليكية بفتح المجال للعلم والجمع بينه وبين الدين. وليس غريباً أن يضمّن هولبن عمله هذه الرسالة حين ندرك أنه عصر استقى معظم علومه وتقدمه من المسلمين فلا نستبعد أيضا تأثرهم بفلسفة الفكر الإسلامي الذي حاول التوفيق بين الدين والدنيا، والعمل للدارين معاً.. شكل الجمجمة حين تشاهد من الجانب هانز هولبن الأصغر، « السفراء» 1533م، 207سم× 210سم، زيت على خشب البلوط، محفوظة في الناشيونال جاليري/ لندن