إن التراث بما يتضمنه من تجارب وخبرات ، يشكل ذاكرة الأمة التي لا يمكن الاستغناء عنها .. فالحقب التاريخية بأحداثها وتجاربها لا تنتهي بمجرد زوالها الوجودي .. وإنما تظل حية في خبرة الأمة وذاكرتها .. لهذا لايمكن القبول بمقولة انفصال ماضي أمة من الأمم عن حاضرها وراهنها .. كما دعا إلى ذلك (مارينيت) بقوله : " إننا نريد أن نهدم المتاحف والمكاتب ، فالمتحف والمقبرة صنوان متماثلان في تجانب الأجساد التي تتعارف بشكل محزن ونحس .. إنها مضاجع عمومية حيث تنام الأجساد جنبا إلى جنب مع كائنات مبغوضة أو غير معروفة .. خذوا المعاول والمطارق ! .. قوضوا أسس المدن العريقة والمحترمة " .. فالحديث عن التراث ليس دفناً للحاضر والمستقبل، وإنما نحن نتعرف على التراث وكنوزه الثمينة ، وننطلق من نقاط قوته والقيم التي صنعته ، لفهم الحاضر والمشاركة بعقولنا وعملنا في صناعة مستقبلنا ومستقبل أجيالنا اللاحقة .. فالتراث ظاهرة مركوزة في التكوين الداخلي للأمة ، لايمكن الفكاك منه .. وإن الحفر المعرفي والتاريخي في تراثنا ، لا يفضيان إلى التعامل مع جوامد أو رمائم أو مومياءات ، وإنما إلى خريطة ثقافية - حية ، استطاعت في حقبة زمنية ، أن تحولنا من أمة هامشية إلى أمة في قلب العالم وأحداثه وتطوراته .. وبهذا نحقق الوصل المعرفي بين ما ينبغي أن يكون حياً من تاريخنا وتجربتنا الماضية وحاضرنا .. إن استعارة منهجية غريبة عن بنيتنا العقدية والفكرية ، ودراسة أوضاعنا وأحوالنا ، من خلال تلك المنهجية ، يجعل هؤلاء (أهل الاستعارة المنهجية) يفرضون التشابه على غير التشابه ، ويجعلون وطنهم يكرر أداء تمثيلية جرت وقائعها في بلاد أخرى ، وضمن ظروف ومعطيات مختلفة .. وفي هذا تقليد مجانب للأصالة والاستقلالية والإبداع لهذا فإن التقاط مركبات ذهنية وفكرية من الفضاء المعرفي الأوروبي ، والعمل على تعميمها على النموذج العربي والإسلامي ، لا يؤدي إلى معرفة سليمة لكلا الفضاءين (العربي والأوروبي) .. لأن مجال المجتمع والحركة الإنسانية ، ليس كمجال الميكانيكا ، وهو لا يرتضي كل الاستعارات ، لأن أي حل ذي طابع اجتماعي يشتمل تقريبا ودائما على عناصر لا توازن .. لذلك فإن قراءة التراث ينبغي أن تتم وفق منهجية خاصة تنسجم وطبيعة الخصائص العقدية والتاريخية للمجتمع .. وعلى هذا من الضروري ، أن نبتعد عن عملية الإسقاطات المنهجية ، التي تتم على مستوى التاريخ والثقافة ، حتى لا نكون جزءا من منظومة ثقافية - فكرية ، لا تنتمي إلى بيئتنا وتربتنا الثقافية .. فقراءة التراث العربي والإسلامي ، لايمكن أن تتم بمنهجية غريبة عن بنية المجتمع وإنتاجه الإنساني عبر التاريخ .. وإنما من الضروري تأسيس المنهج الذاتي المنسجم وخصائص الأمة العقدية والتاريخية ، حتى نتمكن من فهم التراث العربي والإسلامي على أكمل وجه.. ومن هنا نجد أن الكثير من الكتاب والمفكرين الذين قاموا بقراءة تراثنا العربي والإسلامي ، بمنهجيات مختلفة ومتغايرة عن بيئتنا الذاتية ، وصلوا إلى نتائج ، لا تنطبق على تاريخنا ، وإنما تنطبق على تاريخ ذلك المجتمع الذي أبدع المنهج .. والمثال المباشر لهذه المقولة هو (الموقف من العلم) .. لقد حاول قراء التراث العربي والإسلامي ، بمنهجيات الآخر الحضاري ، أن يؤكدوا أن العرب والمسلمين ، وقفوا موقفا سلبيا تجاه العلم ومنجزاته ، اعتمادا على تعميم النموذج التاريخي الغربي .. إذ ينسجم هذا الموقف والمنهجية الغربية ، لأن الميتودولوجيا الغربية ، تضع استبعاد الدين شرطا أوليا لتحقيق العلمية .. بينما الموضوعية تقتضي القول : إن العرب والمسلمين وقفوا موقفا مشجعا للعلم والعلماء ، واحترام منجزات الإنسان في شتى حقول الحياة .. لهذا نجد أن موضوعية (كونت) تؤكد في كتابه (نسق السياسة الوضعية) أنه : في الوقت الذي كان فيه الغرب المسيحي مشغولا بقضايا لاهوتية عقيمة ، كان العالم الإسلامي ينفتح على العلم والمعرفة والفنون وبالتالي أصّل اجتماعيته جنبا لجنب مع روحانيته .. إن التفوق الاجتماعي (يضيف كونت) وأهميته في التعاليم الإسلامية ، أهّلا المسلم ، ليكون أكثر صلاحية من غيره اجتماعيا وأهلاه للعالمية .. وقد أكد سان سيمون أيضا على مسألة أن انهيار الفكر اللاهوتي ، كان مديناً لدخول العلوم العربية والإسلامية إلى أوروبا بعد أن غيرت طبيعة البنية الفكرية الخرافية لذلك التفكير .. يقول سان سيمون " إن ذلك (سقوط النظام الكنسي) حدث مع إدخال العلوم الوضعية إلى أوروبا عن طريق العرب ، وقد خلق ذلك بذرة هذه الثورة المهمة التي انتهت اليوم تماما.. ويضيف : انطلاقاً من القرن الثالث عشر كان روجر بيكون يدرس العلوم الفيزيائية بشكل رائع ، وأن تفوق الوضعي على الحدسي والفيزيقي على الميتافيزيقي كان جدّ محسوس منذ البداية حتى من قبل السلطة الروحية نفسها إلى درجة أن كثيرا من الإيكليروس السامين، ومن بينهم اثنان من البابوات توجهوا في نفس الفترة تقريبا إلى قرطبة ، ليتموا تعليمهم مع دراسة العلوم القائمة على الملاحظة ، على أيدي أساتذة عرب ".. وبهذا فإن استعارة منهجية غريبة عن بنيتنا العقدية والفكرية ، ودراسة أوضاعنا وأحوالنا ، من خلال تلك المنهجية ، يجعل هؤلاء (أهل الاستعارة المنهجية) يفرضون التشابه على غير التشابه ، ويجعلون وطنهم يكرر أداء تمثيلية جرت وقائعها في بلاد أخرى ، وضمن ظروف ومعطيات مختلفة .. وفي هذا تقليد مجانب للأصالة والاستقلالية والإبداع على حد تعبير الكاتب العربي (منير شفيق) .. وبإمكاننا أن نضرب مثالا على الاستعارة المنهجية في قراءة التراث العربي والإسلامي ، بالنتاج الفكري والثقافي للمفكر الجزائري (محمد أركون) ، الذي يرى أن قراءة تراثنا الثقافي والفكري ، ينبغي أن تتم بمنهجية (الإسلامية التطبيقية) التي تعتمد على العرض العلمي ، والقراءة المجردة من كل تحيز أيدلوجي للتراث .. وهدف هذه المنهجية النهائي على حد تعبير أركون نفسه هو " خلق الظروف الملائمة لممارسة فكر إسلامي محرر من المحرمات العتيقة والميثولوجيا البالية ، ومحررا من الأيدلوجيات الناشئة حديثا " ..