الجميع يقرأ ويسمع عن التجاذب الحاصل حالياً بين الادارة الأمريكية الديمقراطية والكونجرس الأمريكي ذي الغالبية الجمهورية حول أهمية رفع سقف الدين الأمريكي ليصل إلى 16.4 تريليون دولار أمريكي (التريليون يساوي ألف مليار) قبل حلول شهر أغسطس المقبل من هذا العام. ماذا يعني رفع سقف الدين الأمريكي وماذا يحدث إذا لم تتم الموافقة على رفع سقف الدين؟ وما تأثير ذلك على الاقتصاد العالمي وعلى دول الخليج وبالتحديد المملكة العربية السعودية؟ وللاجابة على هذين السؤالين يجب أن نعطي القارئ الكريم نبذة تاريخية موجزة عن تاريخ الدين الأمريكي وكيف عالجت أو بالأحرى أجلت الحكومات الأمريكية المتعاقبة مشاكل الديون والعجز في الميزانية خلال الأربعين سنة الماضية. يعتمد الاقتصاد الأمريكي منذ نهاية السبعينيات وبداية الثمانينيات على الاستدانة من الخارج والداخل وذلك عن طريق اصدار السندات الحكومية من قبل الخزانة الأمريكية لتمويل العجز في الميزانية وسداد نفقات الحكومة وذلك اعتماداً على ثقة الأسواق الدولية في متانة وجدارة الاقتصاد الأمريكي، وقد كانت مستويات الدين الحكومي الأمريكي معقولة نسبياً مقارنة باجمالي الناتج القومي وعلى سبيل المثال كان الدين العام الأمريكي في الثلث الأول من عقد الثمانينيات في حدود 1.5 تريليون دولار أي ما يعادل 42٪ من اجمالي الناتج القومي الأمريكي وهو أمر مقبول بالمقاييس الاقتصادية الدولية، ولكن بعد احداث سبتمبر 2001م والمغامرات العسكرية الحمقاء وغير المحسوبة للادارة الجمهورية السابقة وما رافق ذلك من انفاق عسكري هائل قفز الدين العام الأمريكي على اثره إلى معدلات قياسية غير مسبوقة في التاريخ الأمريكي والعالمي بحيث وصل الدين الأمريكي بنهاية عهد الرئيس الأمريكي بوش مع بداية العام 2008م إلى 10.2 تريليون دولار أمريكي وهي وصلت حالياً إلى مستوى قياسي جديد وهو 14.4 تريليون دولار أمريكي بنهاية هذا الشهر يوليو والسبب بالطبع الدعم الحكومي للشركات الأمريكية خلال الأزمة المالية العالمية. نعود للاجابة على الأسئلة أعلاه، الخزانة الأمريكية لا تستطيع بموجب التشريعات الأمريكية ان تقوم باصدار سندات حكومية جديدة إلا بعد الحصول على موافقة الكونغرس على رفع سقف الدين الحكومي الأمريكي إلى 16.4 تريليون دولار وذلك لأن آخر موافقة تمت لرفع سقف الدين كانت قبل عدة أشهر قليلة ماضية عندما وافق الكونغرس على رفع السقف إلى 14.4 تريليون دولار ومع نهاية شهر يوليو من هذا العام تحتاج الخزانة الأمريكية موافقة جديدة لرفع سقف الدين مرة أخرى لتتمكن من طباعة واصدار سندات جديدة. ولعلم القارئ الكريم فقد رفعت أمريكا سقف الدين خلال الأربعين سنة الماضية أكثر من 75 مرة. السؤال المهم والذي أثار الهلع في الأسواق الدولية والأوساط الاقتصادية العالمية مؤخراً هو قدرة الولاياتالمتحدةالأمريكية على دفع فوائد الدين المذكور أعلاه ناهيك عن سداد الدين نفسه بالرغم من أن نسبة الفائدة منخفضة حالياً، إلا ان مجرد التفكير بأن الولاياتالمتحدة لن تكون قادرة على خدمة دينها سيكون صعباً ليس على أمريكا فقط بل على العالم أجمع بما في ذلك الدول الغنية والسبب بسيط جداً وهو أن معظم احتياطيات الدول الغنية، مثل الصين وبعض الدول الأوروبية والدول النفطية وفي مقدمتها بالطبع المملكة العربية السعودية، هي مستثمرة رئيسية في سندات الخزانة الأمريكية ولن أبالغ إذا قلت ان أي تعثر من جانب الحكومة الأمريكية في سداد وخدمة الدين ستكون له آثاره الكارثية على الاقتصاد العالمي والمجتمعات البشرية بشكل يجعل حجم الأزمة المالية العالمية في العام 2008م الذي مازال العالم يعاني من آثارها، مثل حجم النملة أمام الفيل. الصراع الدائر بين الحكومة الأمريكية والكونغرس قد تكون له أسباب حزبية أو انتخابية أو حتى تصفية حسابات شخصية وذلك أمر قد يكون مفهوماً في عالم السياسة، إلا انه من غير المفهوم ان يكون الحل المطروح هو مثل الإبرة المخدرة بحيث يتم تخدير الاقتصاد العالمي لفترة معينة ثم يعود الألم مرة أخرى أشد وأقوى، رفع سقف الدين الأمريكي بدون زيادة الضرائب على الشركات الأمريكية وترشيد الانفاق خصوصاً العسكري والاستخباراتي لن يؤدي إلا إلى المزيد من تدهور الاقتصاد الأمريكي والعودة مرة أخرى إلى ركود اقتصادي قد يكون هذه المرة طويلا ومؤلما. ببساطة شديدة الحكومة الأمريكية تقوم بما نسميه نحن بالعامية (تلبيس طواقي) فهي تصدر سندات حكومية لتشتريها السعودية وغيرها من الدول مثلاً اليوم لتقوم أمريكا بسداد فوائد السندات التي اشترتها الصين وغيرها من الدول بالأمس والعكس صحيح..!