ليس في العنوان أي مبالغة .. بل إن معرفة السر فى الإبداع المتأخر لبعض الشيوخ قد يلقي الضوء على طبيعة العبقرية ذاتها ودور (العامل الزمني وتراكم الخبرة) في آلية الإبداع.. فرغم أن المخ يبدأ في فقد أعداد هائلة من خلاياه منذ سنوات الشباب الأولى.. ورغم أن هذا الفاقد لا يعوض أبداً حتى ينتهي المرء إلى ما يعرف بخرف الشيخوخة وضعف الذاكرة إلا أن هذا التناقص لم يحل دون إبداع البعض في سن متأخرة! فإن كان بعض المسنين يصابون بقلة التركيز وضعف الذاكرة، إلا أن ذلك يعوضه تخصصهم في مجال معين وتوالي اطلاعهم وتوسع مداركهم على مر السنين.. وفي الواقع قد يكون "التفوق الكيفي" هو السبب في أن معظم العلماء والمفكرين - حتى وإن كانت لهم إبداعات سابقة - أتوا بأفضل إنتاجهم في أعمار متقدمة نسبياً. وبصورة معاكسة كثيراً ما نجد أن الأطفال الذين أبدوا ذكاءً خارقاً في الصغر خبت جذوة العبقرية لديهم حال وصولهم للعشرينات من العمر (واستثني من ذلك الموسيقار اماديوس موزارت الذي أبدى ذكاءً خارقاً وموهبة فذة استمرت معه حتى وفاته).. أيضا قد يكون هناك فرق بين "عبقري" أتى تفوقه مرادفا لخبراته المبكرة، وآخر أبدع فجأة بعد سن السبعين أو الثمانين اعتمادا على مبدأ "لابد للمكبوت من فيضان".. فالنابغة الجعدي مثلاً هبطت عليه موهبة الشعر في سن متقدمة، والفيلسوف (كانت) أخرج ثلاثة مؤلفات عظيمة في الإنثروبولوجيا والميتافيزيقا والخلق بعد تجاوزه سن السبعين... ... ومن أشهر من أتذكرهم في هذا المجال العالم الفرنسي لامارك الذي أخرج مؤلفه العظيم في علم الحيوان (التاريخ الطبيعي للحيوانات الفقارية) وهو في الثامنة والسبعين من عمره .. وجوته الذي أتم رائعته المسماة فاوست في الثمانين، وفي سن المائة رسم المصور الإيطالي تشن لوحته الشهيرة "معركة ليبانتو"، ورغم أن توماس أديسون أخرج أكثر من ألف اختراع إلا أن أعظم إنجازاته أتت في السنوات الأخيرة من عمره. وكان الموسيقي فريدي قد ألف "عطيل" في الرابعة والسبعين ، وأتم "فاستاف" في الثمانين وكتب "آني ماريا" و "تريوم" و "ستابات مايتر" في الخامسة والثمانين ..!! وكل هذه النماذج تؤكد أن النضج العقلي والخبرة العملية (وهما بطبيعتهما لا يأتيان إلا في سن متقدمة) يلعبان دوراً أساسياً في العبقرية والإبداع.. ولكن .. كحكم مطلق .. لا يمكن الجزم بأن سن الشيخوخة أو الشباب (أو أي مرحلة عمرية كانت) هي السن الذي تزدهر فيه العبقرية ؛ فالواقع يقول إن سن الإبداع يختلف باختلاف مجال الإبداع نفسه؛ ففي دراسة لعالم النفس ليهمان (1936Lehman) نجد أن الشعراء يصلون لذروة الإبداع في سن مبكرة عن الرياضيين، وعلماء الفلك قبل علماء الطب والصحة، في حين أتت معظم الهامات الفنانين قبل سن الخمسين.. كما يلاحظ أن معظم الشيوخ المبدعين كان إنتاجهم إما "فلسفياً" أو "أدبياً"، تلعب الخبرة دوراً مهماً في صقلهما / بعكس معظم المخترعين الذين أتوا باختراعاتهم في سن مبكرة نسبياً كون الجراءة والتحدي من طبيعة الشباب!! ... المؤكد بالنسبة لي أن عقولنا تتعلم وتتفاعل وتعيد تشكيل نفسها بمرور الزمن .. وهذا بحد ذاته يزيدها روعة وتألقا وتنوعا في الطرح الإبداع، في حين يُحرم من هذه الميزة كل من يتشدد أو يتعصب لرأي معين طال فيه العمر أم قصر...