حرية الرأي حق حفظته شرائع السماء وكل القوانين الدولية, لان الرأي تصور ينبثق من داخل الشخص, ولا يمكن أن تغيره السياط ولا القهر الفكري, لأنه يطرأ على الإنسان من غير اختيار له فيه, تنتجه مقدمات معينة وتلقيه في الذهن ليصير تصورا لا يقبل المغادرة إلا باقتناع العقل بضعف مقدماته ليحل محله تصور ورأي آخر. وحيث لا سبيل لسلطة ما على الرأي وتصوراته أتاح الشرع الحكيم للعقل مجاله ولم يقيده ويرغمه بغير ما يتصور حتى في أقدس الأشياء وهي المعتقدات, كما قال القرآن (لا إكراه في الدين). واحترام الرأي إنما هو احترام لعقل الإنسان الذي تميز به عن سائر الخلق, العقل الذي يبدع ويفكر وينتج, فهو نتيجة العقل وعصارته, وليس مجرد طيش يتفوه به الإنسان أو حماقة يرتبها, وإنما يكون نتيجة إجالة العقل في المقدمات والمقارنة بين كثير من المعطيات ليفرز لنا العقل منها شيئا نسميه رأيا. إن الرأي هو القواعد والأصول التي ينطلق منها الباحث أو العالم, هو التفكير المنطق والانطلاق من القواعد المعلومة ليصل الإنسان بفكرة إلى فكرة كانت مجهولة, وهذه هي وظيفة العقل في الأصل فهو الذي يعرف من القليل الكثير, ومن الباطن الظاهر كما عبر عنه بعض العلماء. وقد اشتهر في تاريخ الفقه الإسلامي أصحاب الرأي أو مدرسة الرأي, وهي مدرسة الإمام الأعظم أبي حنيفة النعمان بن ثابت الذي قال فيه الحبر الإمام الشافعي: الناس كلهم عيال على أبي حنيفة في الفقه. وسميت بمدرسة الرأي لكثر إجالتهم بخواطرهم وأفكارهم في كليات الشريعة، وروح الإسلام، ومقاصده الكبرى في استنتاج الأحكام الفقهية, وكثرة العمل بالقياس الذي برعوا فيه كثيرا. وهذه قواعدهم وأصولهم مدونة محفوظة لترى كيف يكون الرأي, وكيف يبلور العلماء آراءهم, وترى القواعد والأصول العلمية التي يتكئ عليها العلماء ليصلوا إلى الرأي. الرأي هو العقل والفكر, والنظر العميق, والتدقيق في أصول الشريعة وفروعها. الرأي هو توجيه النص, والبراعة في فهمه, وحسن تلقيه. الرأي هو الفقه, وإدامة النظر في أحكامه ومسائله, وتخريج الفروع على الأصول. الرأي هو قواعد طويلة القامة, عميقة الجذور, باسقة الفروع, واثقة في شموخ. الرأي هو المعتقدات التي تنشأ عن النظر، وغربلة الأدلة الشرعية التي ترسخها في الضمير. بالرأي قال الإمام الشافعي في إمام مدرسة الرأي أبياته السائرة: لقد زان البلاد ومن عليها إمام المسلمين أبو حنيفة بأحكام وآثار وفقه كآيات الزيور على الصحيفة فما بالمشرقين له نظير ولا بالمغربين ولا بكوفة فرحمة ربنا أبدا عليه مدى الأيام ما قرئت صحيفة هنا يجب علينا احترام هذا الرأي لأنه ابن العقل ومولوده وربيبه, حتى وإن كان في تصوراتنا خطأ، ولم تقبله عقولنا، يجب علينا احترامه وتقديره, فالله منح الإنسان الاختيار ليُعمل عقله, وحيث غاب العقل عن الإنسان فقدت منه إنسانيته وصار كالبهيمة لا يكلفه الله بشيء, ولهذا قيل قديما: لا دين لمن لا عقل له. ولست أنتمي إلى مدرسة الرأي، ولا إلى المدرسة العقلانية، لكني أكرم العقل وأحترمه، وأنزله القدر الذي أعطاه إياه خالقه، إذ عليه مدار التكليف، وهو الآلة التي تفهم بها النصوص، وتنزلها على الواقع، ولهذا جاءت النصوص حافلة بالتنبيه عليه، والحث على استخدامه، ولم يحجر عليه، بل وجهه الوجه التي يمكنه إذا سلكها أن يحوط عقله بسور يحميه من الزلل ، وأعطاه نورا يبصر به الطريق حتى لا يضل، لقد احترم الإسلام هذا الرأي وجعله عذرا أمام الله تعالى وحجة على صاحبه, وقد اشتهر في كتب الحديث والسير قوله صلى الله عليه وسلم في غزو بني قريظة: لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة. هنا اختلفت رؤى الصحابة العرب الأقحاح, ففهم بعضهم أن الرسول لا يريد إلا الإسراع فأدركهم وقت الصلاة وصلوا, وآخرون أخذوا بظاهر النص وحرفه فأخروا الصلاة حتى وصلوا. وهذا وذاك له وجهته من حيث النظر, ولهذا لم ينكر الرسول الكريم على أي من الطرفين. وليس هذا فحسب بل إن الإسلام يكافئ الإنسان على مجرد رأيه وإن كان خطأ ففي الحديث الصحيح: إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران, وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر. لكن حرية الرأي لا تعني الفوضى وإطلاق العنان لمن شاء أن يقول ما شاء، ويفري في لحوم الناس وأعراضهم ثم يعتذر بأن هذا رأي وعليكم أن تقبلوا رأيي.!! لا. لقد اختلف الصحابة كثيرا وأقرهم الرسول في كل شيء كان سبب الخلاف فيه مجرد الرأي كما سبق, وكما حصل للصحابة في أسفارهم وصيام بعضهم وإفطار آخرين. لكنه صلى الله عليه وسلم لم يقر يوما تعديا على شخص بحجة حرية الرأي والتعبير, لقد قالت له إحدى زوجاته في زوجة له أخرى: إنها قصيرة. فغضب عليها وشدد, وقال: لقد قلت كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته. يقول أبو ذر رضي الله عنه: إني ساببت رجلا فعيرته بأمه، فقال لي النبي صلى الله عليه وسلم: يا أبا ذر، أعيرته بأمه؟ إنك امرؤ فيك جاهلية. وقد روي أنه قال له: يا ابن السوداء. فشتم الآخرين، والطعن في نياتهم، وتصنيفهم بلا دليل، ولا حجة مبينة، لا يمكن تبريره بأنه رأي، بل هو همز ولمز وجاهلية كما ثبت في الحديث. وربما ارتفع الأمر ليصبح غيبة أو نميمة، فليس كل ما قد يظنه الناس رأيا، يكون رأيا. والقدح في المسلمات، وتغيير الواقعات ليس رأيا، فلا يكون رد النص الشرعي رأيا، إنما الرأي في فهمه، وكم في سنته وسيرته صلى الله عليه وسلم من أمثلة لهذا، منها ما هو مشهور في السير، وهو قول الحباب بن المنذر: أمنزل أنزلكه الله، أم هو الرأي والحرب والمكيدة. إن الحماقة لا يمكن أن تكون رأيا مقبولا, ولا يقبل أن تكسى لباس العقل ولا يجوز أن نستخف بالآخرين وندعي بأن الأحموقة التي ارتكبناها إنما هي رأي. إنه شيء عجيب أن نسب الآخرين ونطعن فيهم وفي نياتهم ثم نبرر بأن هذا رأي!! إذن فلا تلم الآخرين إذا وجهوا لك أو لمن تحب سهام النقد، ورموك بالثلب والسب، وقدحوا فيك. لأن هذا رأي حسب زعمك. ولو كان السب والفحش والبذاءة رأيا لما حرم الله ذلك كله، وعصم منه نبيه، صلى الله عليه وسلم!! وصدق الشاعر الحكيم حين قال: فاربأ بنفسك لا تصاحب أحمقا إن الصديق على الصديق مصدقُ وزن الكلام إذا نطقت فإنما يبدي عيوب ذوي العقول المنطقُ.