إن الدرس الذي يجب أن يكون واضحا لأولئك الذين يصنعون مستقبل أوطانهم بدمائهم أنهم مؤتمنون اليوم على قيم عظمى، هي حلمهم ونداؤهم وشوقهم الطويل. وأنه لا مجال لبناء منظومة قيمية بعد هذا الفصل المعتم سوى بقطيعة نهائية مع أي فرصة لظهور نظام مستبد جديد تحت أي يافطة أو عنوان. من أكثر الملفات أهمية وإيغالا في اكتشاف طبيعة النظم العربية التي تواجه انتفاضات شعبية غير مسبوقة، تلك القضايا المتعلقة بطبيعة تعاطي النظام مع المعارضة أو الخصوم، أو ما يعتقد أنهم يشكلون خطرا عليه، حتى لو بدا خطرا بعيد الاحتمال وضعيف التأثير. شكلت نظم الانقلابات في العراق وسوريا وليبيا، النموذج الاكثر قسوة والاشد شناعة وبشاعة في تعاملها مع معارضيها. هناك قائمة طويلة من الاغتيالات والتصفيات طالت سياسيين وكتابا وصحفيين خلال عقود من سيطرة وهيمنة تلك النظم. هناك مذابح جماعية وانتهاكات واسعة لا يسقطها تقادم الزمن بل تستعيدها مرحلة التحولات العاصفة. للحقيقة والتاريخ وللإنسان الجديد في هذه المنطقة، يجب ان تكون تلك الملفات حاضرة في وعي الشارع الذي قدم تضحيات كبرى من اجل انسانيته وكرامته وحريته وحقه بالحياة. أما اولئك المدافعون حتى الساعة عن نظم عربية تتهاوى تحت وقع تلك الانتفاضات المتنامية، فلا ينتظر ان يستعيدهم نداء الضمير المطمور تحت ركام الزيف الذي ما زالوا واقعين تحت تأثيره او مرتبطين بأجندته أو متعامين عن كوارثه. تهاوي النظم الاستبدادية سيعيد فتح ملفات كثيرة تمتد بامتداد عمر هذه الانظمة وسلوكها الدموي تجاه معارضيها في الداخل والخارج. حمت تلك النظم نفسها لعقود عبر سلسلة طويلة من عمليات التصفيات الدموية والمؤامرات والتحالفات وشراء الذمم، وصنعت بامتياز جمهوريات الرعب والخوف. أصحبت ادبيات الرعب سمة عقود في انتاج المثقفين والكتاب والفنانين والشعراء الفارين بجلودهم خارج اوطانهم. بددت تلك النظم ثروات شعوبها على اجهزة القمع، وربطت كل نشاط مهما بدا طبيعيا بموافقة اجهزتها وعلى مقاس رؤيتها لعالمها المسكون بالوجل والريبة، وأنفقت جل وقتها في احاطة نفسها بأحزمة الحماية المتعددة الهويات المتحدة الاهداف، وإلى شهور قليلة مضت بدت كأنها مطمئنة لفاعلية عقود من القمع والتجهيل والسيطرة. اريد ان أقرأ اليوم في سجل تنموي يقدم لنا ملمح دولة تعمل في ظل مشروع يمكن الدفاع عن انجازاته!! ماذا تفخر به هذه النظم وماذا انجزته على هذا الصعيد وماذا قدمت لشعوبها خلال تلك العقود؟. لقد راكمت البؤس والتردي والانتهاكات، ولذا تبدو اليوم محاولة انتزاع تلك الشعوب لحريتها وكرامتها وحقوقها عملية شاقة ومكلفة ودموية. أشعر بالاسى الكبير عندما اجد من يبرر لهذه النظم سلوكها، او يدافع عن منجزات لا تعني سوى النظام وحده، طالما كانت بعيدة عن سلم اولويات الانسان وحقوقه. لا افهم إلا ان الانسان الذي كرمه الله، هو القيمة الاسمى في هذا الوجود، وتتهاوى أمام تلك القيمة كل عناوين التكاذب والتدليس السياسي باسم الممانعة او المقاومة أو الاستعمار الجديد. ولذا تسقط الدفوعات التي تتوسم البحث عن مشجب تعلق عليه مسئولية الدم باسم الممانعة او مواجهة المخطط الاطلسي والامريكي... وكل عناوين التهريج التي تملأ فضاء تلك المنظومات الغارقة في وحل التردي الانساني اولا قبل ان يكون ترديا ذهنيا او عقليا أو محاكمة امينة للوقائع. نشرت صحيفة الحياة سلسلة لقاءات مع السيد عبدالرحمن شلقم، المندوب السابق للجماهيرية الليبية في الاممالمتحدة، ووزير الخارجية الليبي الاسبق، كشف فيه محطات خطيرة في سيرة نظام القذافي، خاصة فيما يتعلق بسلوكه تجاه الشخصيات المعارضة. هذا الكشف ليس مفاجئا تماما، ولكن ان يتم تناوله بتلك التفاصيل، يعني أننا في مرحلة ستفتح فيها ملفات كبيرة وخطيرة تطال سلوك نظام قمعي استبدادي بل مغرق في سلوكه الدموي تجاه معارضيه. من يقرأ رواية شلقم عن صيد المعارض الليبي منصور الكيخيا في القاهرة، وجلبه الى ليبيا ليقضي مع 1286 سجينا قتلوا في مجزرة سجن بوسليم في عام 1996، او من يقرأ عن طريقة جلب المعارض عمر المحيشي مقابل 200 مليون دولار ليذبح في طرابلس، أو عن تصفية معارضين في الخارج مثل المحامي محمود نافع او محمد ابوزيد اللذين اغتيلا في لندن، وعز الدين الحضيري في ايطاليا وكثيرين غيرهم ممن نعتهم العقيد بالكلاب الضالة... هذا في الخارج، أما قائمة الداخل فطويلة، ومن اكثر المشاهد بشاعة من أمر بشنقهم في ساحات الجامعات الليبية، ومن عذبوا حتى الموت في اجهزة المخابرات.... بل ان شلقم لم يتردد باتهام القذافي بقتل الكاتب والصحفي سليم اللوزي في بيروت عام 1980 عن طريق فصيل ابو نضال العميل لأنظمة القهر، لأنه نشر ملفا صحفيا بعنوان العقيد والعقدة - وان كان ثمة رواية اخرى حول اغتيال سليم اللوزي - وغيرها كثير من العمليات الكبرى التي أمر بها القذافي كتفجير طائرة شركة يوتا الفرنسية فوق النيجر لأنه كان يعتقد ان المعارض الليبي محمد المقريف على متنها. ألا تكفي تلك الجرائم في ضمير هذا العالم الذي يفاوض العقيد على الخروج الآمن.. لوضعه في قائمة الادانة الكاملة التي تستوجب المحاكمة!!. أستدعي هنا مقالا مؤثرا للكاتب علي حمودة الذي ربط بين مشهد قتل سليم اللوزي في عام 1980 ومقتل ابراهيم قاشوش في حماة قبل اسبوعين. ثمة سلوك انتقامي مغرق في نزعته الدموية البشعة ينتقم من مواهب المعارضين تشفيا قبل قتلهم. سليم اللوزي اذيبت اصابع يده التي يكتب بها بالأسيد قبل مقتله، وابراهيم قاشوش الحموي نزعت حنجرته التي كانت تصدح في مظاهرات حماة!!. ألا يستعيدنا هذا لمرحلة عربية مظلمة ومرعبة، تُمرّر شريطا طويلا لسلوك انظمة القمع والتصفيات عبر عقود. ألم يقدم صدام حسين رفاقه/المنافسين في وجبات الاعدام لتطال أكثر من أربعين من رؤوس حزب البعث العراقي. هل تغيب تلك العمليات التي نفذها نظام صدام في عدة بلدان عربية واوربية لملاحقة المعارضين وتصفيتهم واحدا اثر الاخر. أما ما كان يحدث بالداخل فحدث ولا حرج... ولسنا بحاجة لاستعادة تلك المآسي التي جلبها على العراق من حروب واوجاع وآلام... ليصبح العراق لقمة سائغة للاحتلال، وليصل إلى سدة الحكم جماعات طائفية مستعدة لإفناء ما تبقى للعراق من مقومات.. من يتحمل كل هذا الخراب؟ من أوصل العراق لكارثة الفشل والتردي والتقسيم والتفتيت والفقر والمعاناة الطويلة في بلد يحظى بكل مقومات النهضة والصعود؟ ومن يقوى عن الدفاع عن النظام السوري بعد هذا الفصل الشاق من العذابات والقتل المبرمج للمتظاهرين العزل. من يقوى على ردء شهادة التاريخ على دموية نظام لاحق معارضيه في الخارج بما فيهم من القادة التاريخيين الذين اسسوا حزب البعث. والقائمة تطول في سيرة نظام لا يتردد في تصفية معارضيه في الداخل والخارج... من يقوى على تجاهل مذبحة سجن تدمر، او مأساة حماة التي أودت بعشرة الاف على اقل التقديرات بعد أن هدمت المدينة القديمة على رؤوس سكانها. هناك ملفات ستفتح حتما بعد زوال هذه الانظمة لاكتشاف كم تبدو كلفة هذا التاريخ الدموي باهظة، بل ومرهقة في مواجهة استحقاقات مرحلة يجب ان تقطع مع ما قبلها، ويجب ان تُحصن هذه المجتمعات الرافضة والمنتفضة عن قبول او صناعة ديكتاتور جديد. ان الدرس الذي يجب ان يكون واضحا لأولئك الذين يصنعون مستقبل اوطانهم بدمائهم انهم مؤتمنون اليوم على قيم عظمى، هي حلمهم ونداؤهم وشوقهم الطويل. وان الحرية والكرامة والعدالة قيم لا يمكن ان تزرع وتتجذر وتنمو في ظل نظم الاستبداد والقمع والالغاء. وأنه لا مجال لبناء منظومة قيمية بعد هذا الفصل المعتم سوى بقطيعة نهائية مع أي فرصة لظهور نظام مستبد جديد تحت أي يافطة او عنوان. وحتى لا تعود تلك الشعوب لأوضاع انتفضت عليها ودفعت دماءها في سبيل التخلص منها... وما زالت تدفع ثمنا باهظا ومكلفا لا نظير له. إن تلك المراحل المعتمة وصمة عار لا يمحوها الا التطلع لفجر جديد يقطع نهائيا من أية عوامل يمكن أن تعيد انتاج ماض متخم بالألم والقهر والظلم.