قال لي مرة "محمد عفيفي مطر" ، الشاعر وصانع المجازات . كنا نسير آخر الليل في مدينة لا تعرف النوم ، ولا تخلو من دبة القدم ، لكن عند الفجر تقدم نفسها كمدينة هادئة . "ولدتني أمي في الحقول ، ذهبت لتملأ جرتها من الترعة البعيدة ففاجأها طلق المخاض وهي تغمس الجرة في الماء ، فدخلت بين أعواد الذرة ودون مساعدة من أحد أخرجتني إلي الدنيا ووضعتني في حجرها وعادت بي مسرعة ، وعلي ساقيها كما أخبرتني خيوط الدم" . صمت لحظة ثم واجهني وعاد يقول : "ربما لهذا السبب يحمل شعري لحظة الميلاد تلك ، وتحمل مضامينه معني الطمي والدم وأسطورة شمس الصيف القادحة!!" هو محمد عفيفي مطر الذي عرفته من العمر أربعين سنة ، وخبرته معلق قلبه بين مخالب الطير في الأعالي وكلما حط يستريح نفرته الدهشة وانفتحت أمامه مسالك الأفق . كانت رفقة باقية تعكس المشترك بيننا ، وتجسد ما أمنا به طوال السنين من قيم ومعايير ..الحرية والعدل ومحبة الأوطان واحترام البشر في كل تجلياتهم . ظل طوال عمره يدافع عن طهارة الروح بفطره تشرق من مشرق النور حيث قلب القصيدة التي تنتمي له وحده ، والذي ظل يغزلها طوال عمره بذلك الصبر الرواقي ، وتلك اللغة شديدة الخصوصية والتي تملك القدرة علي تفكيك الزمن فتختلط عبرها الأزمان وتشكل زمنها الخاص فلا فرق عند مطر عن الزمان الماضي أو الحاضر أو المستقبل ، حيث مفهوم الشاعر للفن والحضارة ، لأن زمن الفنان واحد . محمد عفيفي مطر (1935-2010) دارس الفلسفة الذي كتب الشعر أول الخمسينات مع صلاح عبد الصبور واحمد عبد المعطي حجازي ، ولأسباب سياسية ورغبة من السلطة في تهميشه ، احتسبوه علي جيل الستينات . تنقسم تجربة الشاعر إلي دوائر : الأولي : مجمرة البدايات ومن دواوينها الجوع والقمر . من دفتر الصمت .يتحدث الطمي . وهي الدواوين التي اعتبرها الشاعر بطاقة التعريف الأولي بنفسه ، وبكونه الشعري ، وبعالمه الذي يعيش فيه . الدائرة الثانية : دوائرها شغلتها أحوال الملوك ، وتواريخ العسكر وقيامات الأمم وانهياراتها ، واكتشاف سطوة الجماعة ،عبيدها وساداتها ، واتسمت بذلك الأفق الفلسفي ، وتساؤل التواريخ من هيباتيا وسيد قطب ، وهي مرحلة التعصب القومي ، والعنصرية تجاه الآخر ، وامتزاج الفلسفة بالشعر ، وتجلي ذلك في دواوين : ملامح من الوجه الانبذوقليس .رسوم علي قشرة الليل . كتاب الأرض والدم . شهادة البكاء في زمن الضحك . ثم كانت الدائرة الثالثة ، وكان ديوان : والنهر يلبس الأقنعة . ورباعية الفرح وأنت واحدها وهي أعضاؤك انتثرت . وانتهت تلك المرحلة بديوان السجن والاعتقال : فاصلة إيقاعات النمل حتى الخاتمة بكتابة السردي : أوائل زيارات الدهشة ، عن فترة التكوين والبحث عن الأصول والوعي بالمكان والزمان واستحضار مايكون وعي الشاعر فتأملا حواسه الخمس فكان كتابه المهم الذي انفتح علي المسالك ، وأزمان الطفولة ، وهذا الكتاب بالذات اعتبرته ديوان عفيفي الكبير. ظل عفيفي مطر يمثل الضد في مواجهة أي سلطة تهين الإنسان . اعتقلوه وعذبوه بلا رحمة حين أعلن موقفه المعارض من غزو العراق . زرته في سجن "طره" وروعت حين رأيت التعذيب علي وجهه وبدنه . يومها كان حزينا ومنكسر الخاطر ..كانت جراحه شريرة ومروعه لحظتها هتفت لنفسي لقد عذبوه .. يا للعار!! عاش محمد عفيفي مطر طوال عمره وسط الجماعة الهامشية من الكتاب ، لم يتبع سلطة ولم يشارك في زيف .ارتبط بأقاليمه الثلاثة : بالنهر من أدني عتبات الحواس الخمس صعودا إلي آفاق الرمز والرؤيا ..وارتبط بالذوبان الحسي إلي الملاحقة الصوفية في تجليات النقائض ..كما ارتبط بالفضاء المفتوح علي الشمس والإصغاء لحركة النظام الكوني وتأمل الأفلاك. رحم الله محمد عفيفي مطر الذي تمني دائما أن يموت علي أكوام السباخ في القرى ، وقال قبل رحيله : "حياتي مغسولة بعرقي ، ولقمتي من عصارة كدحي وكريم استحقاقي ، لم أغلق بابا في وجه أحد ، ولم أختطف شيئا من يد أحد ، ولم أكن عونا علي كذب أو ظلم أو فساد ..اللهم فاشهد" . فليرحم الله شاعر العرب الكبير.