لقد تسنى لي مؤخراً ان أزور جامعة الملك سعود في الرياض بدعوة كريمة من مديرها معالي الدكتور عبدالله بن عبدالرحمن العثمان الذي بتعرفي لأول مرة عن قرب لشخصه الكريم ولمنجزاته في الجامعة غمرني بأصالته واهتمامه، وأسرني بالإعجاب بالمشروع المتطور الذي ينفذه في الجامعة، أكاديمياً، وهندسياً وتقنياً وإدارياً وعلمياً وما ان انتهت الزيارة حتى وجدت نفسي ملزماً بأن أخبر بما رأيت وسمعت وبأن أشهد لاندفاع الرجل ورؤيته بعيدة المدى والمشروع الرائد الذي يتولى تحقيقه. والواقع إنني لا أود في هذا المجال ان أسرد بصورة تقليدية ما تضمه الجامعة من اختصاصات وكليات ومبان ومختبرات بقدر ما أرغب في الحديث عن الرؤية الخلاقة التي يعتمدها الدكتور العثمان في تطوير الجامعة وجعلها ليس مركزاً تعليمياً أكاديمياً فحسب بل مدينة جامعية تضم المنشآت التعليمية والبحثية والمراكز الطبية المتقدمة والمجمعات السكنية ومراكز العمل، وكل ذلك وفق صيغة تلائم حسن توظيف رأس المال في خدمة العلم والأبحاث، وتريح منسوبي الجامعة وتوظف في أوقات الفراغ مواهبهم وقدراتهم المهنية في خدمة الوطن والمواطن. لقد ابتكر الدكتور العثمان صيغة خلاقة تقوم على الشراكة بين الجامعة والشركات الوطنية وتقضي بأن تضع الجامعة مساحات من الأراضي بتصرف الشركات لتبني عليها إنشاءات استثمارية وفق اختصاصاتها، وهذا ما فعلته الآن شركة (سابك) في جامعة الملك سعود حيث استحدثت مختبرات للأبحاث البتروكيمياوية وخلافها. وتنص الشراكة على ان تقدم الجامعة الأراضي برسوم رمزية وعلى مشاركة أساتذتها بالأبحاث على ان يتم تقاسم عائدات الاكتشافات والأبحاث العلمية بين الجامعة والشركة. ولأن للأستاذ الأكاديمي حقاً على الجامعة ان يعيش برفاه فقد توسع الدكتور العثمان في بناء وحدات سكنية مخصصة لأعضاء الهيئة التعليمية وعوائلهم، كذلك أمّن البيئة المناسبة لتوظيف قدرات الأساتذة والأطباء الذين يعملون في الجامعة عبر تأمين مكاتب وعيادات يستأجرونها ويعملون فيها خارج أوقات الدوام الرسمي، هذا مع التذكير مجدداً ان جميع العائدات المالية تعود لصندوق الجامعة لتعزيز نشاطاتها وتقدمها، وهذا ولا شك يعطيها مزيداً من المرونة والاستقلال الذاتي. أما لجهة الهندسة، فقد أولاها الدكتور العثمان أهمية خاصة لناحية الدراسات والمواءمة العلمية ووجهة الاستعمال، والحقيقة ان من يشاهد الأبنية التي أنجزت والتي لا تزال قيد الإنشاء يجد نفسه أمام تحف هندسية تعبر عن براعة التصميم وعن مستوى متقدم من الحداثة يحاكي أضخم الإنشاءات العالمية ويتلاءم مع البيئة المناخية للمملكة. لقد توصل الدكتور العثمان بالحوار والتفاوض وبعد النظر والرؤية إلى صيغة تسهم في تطوير البحث العلمي في المملكة وفتح الطريق أمام الجامعات السعودية لتحذو حذو جامعة الملك سعود في التوصل إلى شراكة مع مؤسسات القطاع الخاص على قاعدة ان هذه الأخيرة توفر التمويل فيما توفر الجامعة مساحات الأرض والعلماء على ان يتم تقاسم الأرباح والعائدات وفق شروط محددة. هذه هي القاعدة الذهبية التي سار عليها بمزاوجته بين رأس المال الخاص وإمكانيات الجامعة، أو بكلام آخر وضع رأس المال في خدمة العلم، وها هو يحقق نجاحاً باهراً ويسهم في إحداث ثورة عمرانية وعلمية تجعل من جامعة الملك سعود صرحاً لا يوفر التعليم الأكاديمي فقط بل يضم أيضاً منشآت علمية وبحثية وطبية تساهم في تطوير العلم وفي تطوير المجتمع السعودي وتقديم أفضل مستوى من الخدمات للطالب والمواطن. أراني في هذا المجال أود القول إنه كان بإمكان الدكتور العثمان ان يكون مديراً للجامعة، ينجز عمله الأكاديمي والإداري ويكتفي بذلك. لكنه لم يتوقف عند هذا الحد لأن مستوى الابتكار في فكره عال فابتكر هذه الصيغة وأبدع، دون ان يطلب مساعدة من الدولة أو ان يكلف الجامعة مبالغ طائلة بل أمّن كل ذلك من خارج ميزانية الدولة والجامعة، لأنه قام بشيء واحد هو أنه أحسن التصرف بما بين يديه. لم أهدف من وراء عرض هذه الفكرة إلى امتداح معاليه فهو غني عن ذلك بما عرف عنه، بل لأقول ان الدكتور العثمان قدم بما قام به أنموذجاً جديداً في مجال تطوير المستوى الجامعي وفتح الطريق أمام كافة مدراء الجامعات السعودية ليحذوا حذوه ويسعوا إلى تطوير هذه المؤسسات الهامة. فجميع الجامعات السعودية تضم طاقات علمية وبشرية وتملك إمكانيات ومساحات أرض ولا أشك ان المؤسسات السعودية التابعة للقطاع الخاص مستعدة للمساهمة في مثل هذه المشاريع طالما ان هدفها نبيل ويعود بالخير على المواطن ويسهم في تطوير الوطن. ولعل أهم ما في مبادرة الدكتور العثمان هي أنها تجسد تكامل القطاع العام والقطاع الخاص تحت سقف محبة الوطن وتسخير كافة الإمكانيات في سبيله. وما جرى في جامعة الملك سعود على هذا الصعيد يعبر عن العمق الوطني لدى أبناء الشعب السعودي وعن مدى استعدادهم للتضحية في سبيل وطنهم، وإني لعلى يقين ان أي مؤسسة سعودية لن تتوانى عن الدخول في مثل هذه المشاريع إذا ما توفر من يبادر إلى وضع الدراسات الناجحة لها. إن الجامعات السعودية تزخر بالطاقات الفكرية والإدارية وبالرجال الأكفاء الذين ينذرون أنفسهم للوطن وللمساهمة في تقدمه عبر المؤسسات التي يديرون. وكم يطيب لي هنا ان أذكر بكل تقدير ما يقوم به الدكتور محمد العقلا مدير الجامعة الإسلامية في المدينةالمنورة الذي يقوم بعمل دؤوب من أجل إعطاء هذه الجامعة دوراً أبعد من دورها التعليمي المعتاد، فينظم المؤتمرات العلمية والثقافية التي تناقش مواضيع هامة وحساسة ويدعو إليها كبار المسؤولين والمتخصصين والمفكرين والكتّاب والمحللين والعلماء من داخل المملكة وخارجها، لإجراء بحوث علمية معمقة والغوص في هذه المواضيع وإيجاد حلول لها وتقديمها لصانعي القرار، وقد تسنى لي ان أشارك في مؤتمرين نظمتهما الجامعة عن مكافحة الإرهاب وعن دور المملكة العربية السعودية في خدمة القضايا العربية والإسلامية، وكانا مؤتمرين ناجحين بكل المقاييس من ناحية المدعوين والمشاركين والتنظيم والنتائج، وذلك يعود لما يتمتع به الدكتور العقلا من تصميم وإيمان كبيرين بأن دور الجامعة كبير إلى هذا الحد وعلى المسؤول فيها ان يبتكر تماماً كما فعل هو والدكتور العثمان. وأرى لزاماً عليّ في هذا المجال ان أحيي أيضاً الجهود الكبيرة التي يقوم بها مدير جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية معالي الدكتور سليمان أبا الخيل الذي أدخل كليات جديدة إلى الجامعة لدفعها إلى السير في ركب التقدم والتحول إلى جامعة وطنية بكل ما للكلمة من معنى بدل ان تبقى جامعة محدودة الاختصاصات موسومة بسمة معينة. لقد عانى الدكتور أبا الخيل ما عاناه وواجه ما واجهه من مواقف بعض الغلاة إلاّ أنه عقد العزم على تطوير الجامعة وإبراز شخصيتها ودورها الحقيقيين وقد جاء تعيينها لرئاسة جامعة العالم الإسلامي ليؤكد صوابية النهج الذي تنتهجه إدارتها وقبولها كمنبر نير يؤتمن على الفكر الإسلامي ويسهم في تصحيح المفاهيم الخاطئة التي ألصقت بالإسلام ويقدم الصورة الحقيقية لهذا الدين لعظيم. لقد عرضت في هذا المقال نماذج من ثلاث جامعة سعودية علماً ان الجامعات باتت منتشرة في طول المملكة العربية السعودية وعرضها بفضل السياسة الحكيمة التي ينتهجها خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز حفظه الله، الذي يولي العلم والثقافة أهمية خاصة لما لهما من دور أساسي في بناء الوطن وتقدم المجتمع. لقد وضعت القيادة السعودية الخطوط الأساسية للمؤسسات الجامعية وأمنت لها احتياجاتها المادية واللوجستية ووفرت لها كل ما تحتاجه من طاقات في سبيل نجاحها، ودور هذه المؤسسات هو ترجمة أفكار القيادة ورؤيتها الاجتماعية على أرض الواقع. فالجامعات السعودية كافة مدعوة إلى المشاركة في تحمل المسؤولية الوطنية والاجتماعية عبر القيام بدور أبعد من الدور الأكاديمي العادي على غرار ما قامت به جامعة الملك سعود في الرياض والجامعة الإسلامية في المدينةالمنورة وجامعة الإمام محمد بن سعود. وإذا كان لابد من طرح بعض الأفكار فإنني أرى ان الجامعة هي المكان الطبيعي لتشكيل هيئات فكرية (THINK TANK) تبحث في مختلف المواضيع السياسية والاقتصادية والاجتماعية والاستثمارية وما إلى هنالك من مواضيع هامة وتتوصل إلى خلاصات وأفكار بشأنها يتم رفعها كرأي علمي موضوعي حيادي وكمشورة لصاحب القرار أو لمؤسسات القطاع الحكومي. وما يصح في القطاع الرسمي يصح أيضاً في القطاع الخاص حيث تستطيع هذه الهيئات اعداد الدراسات والأبحاث للمؤسسات الاقتصادية وكبرى الشركات السعودية والعربية والأجنبية التي تريد الاستثمار في المملكة أو في أي بلد آخر أو أي قطاع، ومن شأن كل ذلك ان يعزز الموقع الفكري والبحثي للجامعة وان يسهم في تعزيز المكانة المعيشية للأستاذ الجامعي بحيث يلتزم بالجامعة التي يدرس فيها التزاماً كاملاً ولا يبحث عن أي عمل آخر خارجها. كذلك تستطيع الجامعات الاسهام بتعزيز الأنشطة الفكرية عبر تنظيم المؤتمرات والندوات كمثل تلك التي نظمتها الجامعة الإسلامية في المدينةالمنورة وهناك مواضيع شتى يمكن التطرق إليها وتوعية المجتمع حول أخطارها كالإرهاب والمخدرات والانحراف الفكري، هذا بالإضافة إلى تنظيم برامج تبادل زيارات مع الجامعات العالمية والمنتديات الفكرية ووسائل الإعلام العالمية لتعزيز ثقافة الحوار والتواصل مع الآخر وتفاعل الحضارات والاستفادة من ذلك لإبراز ثقافتنا وتصحيح المفاهيم الخاطئة التي ترسخت في العقل الغربي عن الإسلام والعرب. إن الجامعات السعودية لا تعاني من أي نقص مادي ولا تفتقر إلى الكفاءات والطاقات والمطلوب منها ربما هو إجراء قراءة جديدة لأبعاد دورها وتوظيف قدراتها وكفاءاتها لمصلحة الوطن والمواطن. * سفير خادم الحرمين الشريفين لدى الجمهورية اللبنانية