في فيلم "إمبراطورية الشمس" عن رواية ج . س. بالاراد واخراج "سبيلبيرج" نرى الغلام الأمريكي الذي فُقد، ووقع في الأسر، في أحد معسكرات الاعتقال اليابانية التي تشبه معسكرات النازيين. نراه طوال العرض يعيش لحظات مرعبة، تنقله من إنسانية الطفولة إلى بشاعة الحرب، كما نشاهده طول الوقت أثناء ركوبه دراجته وكأنه يحاول العثور: على روحه عبر التدمير المنظم لكيان الغلام. أو عبر قطعه المسافات داخل المعسكر كمن يحاول العثور على موته. أو يطارد حرية مفتقدة داخل حيز غير آدمي. ينتهي الفيلم وقد حررته قوات بلده آخذين كل الأطفال المحررين إلى آبائهم ليتعرفوا عليهم.. أرى الغلام الذي يبحث عن ذويه. أراه وقد لمح أمه من بعيد.. كانت نظرة عينه عميقة وتائهة، ثبتها على وجه امه في استغاثة ورجاء، قادما من عمق تلك الأيام في معسكر الاعتقال، من ذلك الأذى الروحي الذي لاقاه.. ظل يمعن النظر حتى التقى بكتف أمه فوضع رأسه عليه.. كان كمن يرى أمه أول مرة، فيما نحن في صالة العرض تفزعنا من غير رحمة صرخة مدوية تدين افعال القمع ضد الأطفال. أنا واحد من المؤمنين بأن الأطفال أحباب الله، وان الله سبحانه قد اصطفاهم ومجدهم ووهبهم البراءة والدهشة والحنو، ومن ثم فهم الرمز لكل شيء جميل. ما الذي يجري لأطفالنا وسط ما يحدث من ثورات تجتاح الأوطان؟! ما نوع هذا العنف المتوحش، والقسوة المنظمة التي تمارسها أنظمة القمع تجاه الكائنات الضعيفة والتي هي أحباب الله؟! من هؤلاء الذين أطلقوا على انفسهم اسم الشبيحة، هؤلاء الذين لا نعرف من اين يخرجون؟!.. يحيطون بالأطفال ويسحبونهم على وجوهم، ويدهسونهم مثل خيل الحكومة المدرب ويحملونهم في عربات لا تعرف إلى أين؟! يخرج أحباب الله من غير وعي منهم، تجذبهم الهتافات، وزحمة المتظاهرين وأغنيات الحرية، والصرخات ضد المظالم، وسطوة الزعيم، وقهر الأقلية، واستبداد العسكر، والأسلحة المشرعة. مشهد لا يحدث كل يوم!! لم يروه في شوارعهم منذ ولدوا!! يستدعون بعضهم فرحين بصوت الحرية، والأمل في الخلاص، والمشهد عندهم أقصى مشاهد الحلم، الحلم بالشمس والهواء وهدير البحر. يرى الأطفال الجموع الزاحفة في الشوارع، أو الميدان المشجر الذي تظلله البيوت المسكونة بحياة تنتظر تلك اللحظات من قديم، والميدان تقام به النصب التذكارية، وتماثيل من مضوا حيث وجه الله، وبعض المآذن من التواريخ القديمة. بعفوية الطفل، يندسون وسط الزحام، حاملين بين ضلوعهم أمنياتهم، ويسعدون داخل الميدان، وبين أحساسهم بالدفء بين الأجساد المتلاطمة يمرحون ويرددون الشعارات ويضحكون... مشهد جديد عليهم.. ورؤيا كأنها القيامة ومحاولات لاختراق الزحمة واللعب وسط الكبار. فجأة.. تدوي الطلقات.. تدوي مثل غضب الطبيعة!! من ذلك الذي يقف هناك، بقامته الطويلة، وهندامه الرشيق وسط الجنود ويأمرهم بالقتل؟! من هؤلاء الذين على رؤوسهم طاسات الحديد، وتدوي طلقات الموت من أسلحتهم؟ من يعرف هؤلاء الأقوياء، المدربين، الذين يقبضون على هراواتهم ويمارسون العنف ضد الأطفال في جوانب الميدان، فإذا أدركوهم هرسوهم بأقدامهم، وسحبوهم على أسفلت الشارع حيث لا نعرف أين؟! كأنني أراهم هناك.. قادمين من ازمان الظلم، والقمع، وجبروت الجنود. أنا أعرفهم.. العسكر.. أجهزة المخابرات.. أفراد العائلة.. الرومان وممالك بيزنطة، وشراذم المماليك، وقمع سلاطين الترك، وتجاوز الأغوات، وغلاظة الولاة عبر التاريخ. أنا أعرف من اعتقل الأطفال، وأخذهم سبايا، ينتزعون أظافرهم. رأيت صورهم، وعرفت حكاياتهم، وحفظت أسماءهم. الفتى حمزة الخطيب "13" عاماً الذي ضرب حتى الموت.. والفتى "ثامر الشرعي" الذي ضربوه، وأطلقوا على أنفه الرصاص، وسحلوه بسبب مطالبته بفك الحصار عن "درعا".. وحمزة راح ضحية توزيعه المؤن على المحاصرين في درعا. ما هذا الزمن الكئيب الذي عاشت فيه الشعوب تحت وطأة المظالم. كلنا نعرف أنهم كانوا يمرحون، كانوا فرحين بالثورة. ونعرف أيضا أنهم لا يمتلكون ضغينة لأحد. يمدون أيديهم لبعض متكاتفين، ويحلمون، وقد فازوا بطريقهم نحو الجنة، فيما حصل قاتلوهم تاريخا من الخزي والعار!!