لم تكن الطبعة الثانية من ديوان العقيلي: كفاية الغريم عن المدامة والنديم التي ظهرت صورتها في الجزء الأول من هذا المقال بين يدي، وقد اعتمدت على الطبعة الأولى التي ظهرت بخط اليد، وربما أتت الطبعة الثانية بتفصيلات جديدة فالأستاذ بلال البدور من أبرز الباحثين الذين عرفتهم في دولة الإمارات العربية المتحدة في مجال التراث الثقافي، ولقد جمعتني به زمالة عمل دامت حوالي عشرين عاماً من خلال العمل الثقافي الشبابي المشترك بدول مجلس التعاون، وامتدت إلى صداقة حفتها المشاغل الخاصة بكل منا، وأبقت عليها متابعة انجازاته الثقافية المتصلة بالتراث والتنمية الثقافية، وقد مكنه فهمه لمجال اهتمامه ووعيه بمستجداث العمل الثقافي على وفاء دراساته وأطروحاته بمتطلبات البحث وتطلعات المتلقي وعرض رؤاه عرضا مؤسساً على رؤية ثاقبة وإحاطة تامة بأبعاد موضوعاته. نعود إلى شاعرنا العقيلي الذي وجد في دبي ربوعاً كريمة، وصدورا رحبة، وسماحة اجتماعية برز من خلال منتدياتها الأدبية، ومعاهدها الدينية، واحتفاء أهلها به في حياته وبعد مماته، فكانت داره في حياته موئلاً لعشاق الأدب، وبعد مماته ظلت أثراً يحفظ ذكريات الوفاء والتقدير، وتناول الباحثون إبداعه بالتدوين والدراسة متذاكرين نموذجا أدبيا فذاً طرق أغراض الشعر كلها، وغنى له فنانو الخليج كثيراً من غزلياته، ورددوا مقطوعات وطنية كثيرة، وأنشد طلاب المدارس من كلماته عديداً من الكلمات الشعرية التربوية التي تساهم في تشكيل الشخصية الإنسانية الصالحة، مع أن شعر الحكمة والرؤى السياسية والأخلاقية تغلب على إبداعه وبخاصة بعد تجاوزه سن الثلاثين من العمر، وأصبح من جلساء الحكام والأعيان والفقهاء، مع أن نزعات العواطف الوجدانية لم تخل منها أكثر قصائده في الحكمة والورع والسياسة. كان الشاعر من أخلص أصدقاء وندماء الشيخ بطي بن سهيل الذي انتخب في عام 1323ه حاكما لأمارة دبي، فاعتز الشاعر بهذا الاختيار فأنشأ قصيدة أعمل فيها الفكر لتكون كما يقول: «له موقظة ولذوي الألباب موعظة»، ولم يشر فيها لبواعثها وخصوصيتها وإنما أطلقها نموذجاً استرشاديا للباحثين عن الكمال، وقد زادت مقدمتها الشعرية عن عرض الأفكار التي طراحتها، يقول في مطلعها: قال العقيلي في قواف أجادها تنقَّيتها واتقنتها في وجادها سبكت المعاني للمعاني بهمة على نار فكرٍ ما يهون اتقادها إلى قوله: بيوت لها تصغي هل الفضل سمعها وتفهم بتحقيق صحيح مفادها يتسامر بها الندمان في كل خلوة ويحدي بها الحادي بداجي سوادها إذا ما تلاها منشدٍ وسط محضر تميز بها إنسانها من جمادها يقول الفهيم اللي بالاداب مولع أعدها لنا وافصح ورتل انشادها فالاذهان بالآداب تربو وتغتذي كما تربو الغبرا بجون أجادها ويمضي في التهيئة والتقديم لما سيطرح معبراً عن وقاد مشاعره، وتهافت الأفكار وانتقاء ما يلائم منها مطعما ذلك بشيء من الغزل فيقول: كشفت الغطا والقلب به واهج الغضا وفزّيت واستدنيت جاني مدادها وسجلٍ يشابه خد من لان قده إذا ما مشى يزري الغصون بميادها به النقش يزهي بالمثايل لمن يرى كما روضة غنا زهى بها اورادها ينزه بها فكره لبيب مهذب رسوم المعالي ما تعدّى جوادّها ثم ينطلق ويكشف عن طبيعة الحياة وتقلباتها وأهمية عدم الاطمئنان إلى كثير من حالاتها، ويدعو إلى اليقظة والانتباه إلى مغباتها، وتقديم الصنع الجميل والحذر من الملونين فيقول: أرى من أخلان الرخا ما يريبني أمور بمبداها العجب مع معادها قصرت الخُطا واغضيت طرفي عن الخَطا وفيما وطا نفسي قوي زهادها اذا فرج الله شدة جات شدة يهيّج لها ناس قديم حقادها تجاهلت مع علمي بما في قلوبهم وعاشرتهم والنفس تعرف ودادها فأخفوا لي البغضا وأبدوا لي الرضا كما نار دوق كامنة في رمادها عسى الله ياجرنا على ما أصابنا ولا ربح من هاج الدواهي وقادها ومن عرف حال الناس هانت همومه ومن مارس الشدات راض اشتدادها إذا عجزت الفتيان عن مكسب الثنا فلا تفتخر بافعال سالف اجدادها فكم شيد الأجداد من شامخ البنا والابنا بعدها اسرعت في هدادها وما الفخر الاحسن خلق ونايل وسبق إلى الهيجا بيوم احتشادها وحزم وعزم واهتمام وفطنة بالاشيا وحسن الراي أصل اعتمادها ومن أهمل التدبير ما نال مطلب ومن غرته دنياه حاول نفادها إلى قوله: يقولون لي ناس علامك هجرتنا وذاتك تقيّدها بطول انفرادها أقول العفو نفسي عليّه عزيزة وعن غير من يسوى أود ابتعادها وقوله: هبيل الذي ياخذ برايه ويقتدي عداه الرَّشَد واشياه جدد فسادها عن الجود لا يغضي فتى يطلب العلا فمن جاد بالمعروف للناس سادها قيم اجتماعية طرحها الشاعر ووصفها أمام صديقه، لم تكن نصيحة مباشرة تأنف منها النفس وتأباها عزتها، ولكن الصديق وجد فيها معان يليق به الأخذ بها فابدى حيرته بأبيات جاء فيها: أنا ليس عارف بالجدا كيف أهتدي وطرق العدالة ساد فيها فسادها أرى الناس يا مشكاي أطوار شكلها وانت الخبير بها وعارف موادها فلا تحسب اني ساير غير سيرتي كما كنت تعهد لا نغير جوادّها هذه الأبيات تبين مدى العلاقة العميقة القائمة بين الرجلين، وقبول الحاكم التلميح بالنصح ممن يثق به ويؤمن بصدق ما أشار إليه دفعه إلى طلب التوضيح والافاضة في النصح، ليس لقلة فهم لديه لما يجب عليه أن يعتمد في مسؤولياته، ولا لندرة في المستشارين المقربين من سدة الحكم ولكن رغبة في الإبانة عن أفكار بدا على منشئها التهيب من المباشرة لعلمه بجدارة الرجل بمنصب آل إليه بانتخاب وحسن اختيار من أسرة حاكمة عرفت بالحكمة وبعد النظر وتعاطفها مع المواطنين والمقيمين وتنمية مناحي الحياة والموارد بإخلاص وأريحية. ولهذا استجاب الشاعر لطلب الصديق فأبان عما ألمح إليه في قصيدته في قصيدة أخرى جلت أفكاره بوضوح وتفصيل، جاءت مطابقة لما قبلها في القافية وكان مطلعها: يقول العقيلي في بيوت أشادها وضاحٍ معانيها بيانٍ رشادها وقد وجدت في إيرادها تكراراً، وفي طولها تجاوزا لحيز المقال، فاكتفيت بالاشارة إليها. والشعر كان صحافة ذلك الزمن يتناقل جيده الركبان، ويصور قيم ذلك الزمان، وقد قدم الشاعر العقيلي إلى دبي وقد نضجت تجربته في كل فنون الشعر عملاً بخوض الشاعر كل الأغراض والألوان وتفجير شحنات الوجدان. فأبدع العقيلي في المواويل والقصائد والغنائيات فردد البحارة مواويله، وغنى المطربون وجدانياته والمنشدون وطنياته ووعظياته. والرجوع إلى ديوانه يوفي الرجل حقه في الابداع وجلاء موهبته والوقوف على مسار تجربته، فهو لا يختلف عن الشاعر الإنسان الذي عاني من الوله والمجتمع واغترب بأشجانه وحنينه، ولقي من أطياف السرور والسعادة ألوانا، ومن الشظف ألوانا، عبر عن كل ذلك في شعره وتلك حياة المبدعين. ولا باس من أن نذكر شيئاً من غزلياته في صباه مما ورد في قصائد حنينه إلى الاحساء وشكواه من إخلاف محبيه لعهودهم. ويبدو أن الشاعر كثير الحنين إلى الاحساء في سني اغترابه الأولى، فيتذكر في وله شديد ربوعها وأصدقاءه وهواه فيها فيوصي ركبا أمها قائلا: أرى قصدكم دار رعينا بربعها أزاهير روض الأنس مع شادن شادى على هونكم يا ركب أخذوا رسالتي إذا كنتم للدار يا ركب قصادِ وان كان رمتم مربعاً غير ساحها وصارت لكم يا ركب داري على الجادي فمروا عليها والثموا تراب أرضها وبثوا بها بثي وحزني مع سهادي وتلك أبيات من قصيدة نظمها في عام 1321ه مطلعها: جفا النوم جفن الصب ما عاد يعتادِ ومن كان مثلى كيف يلتذ برقاد غريم الحشا والحب في مهجتى نشا ودمعي وشى باللي أكنّيت بفوادي أنا ابات مبتوت الرجا من أحبتي وغيري بهم بالوصل يحظى والاسعادِ وعن معاناته في سجن الاحساء في العهد العثماني يقول: مسكين يا اللي بحبس الروم حتى السفر ما يشوفونه لا صاحب له يزوره يوم وان زار عنه يبعدونه وكيف الحول في الذي مظلوم بالزور الانذال يرمونه على أن ابداعه في المواويل رفيع المستوى يدل على ثقافة وتوظيف للمفردات المناسبة التي يعتمد غيره في اختيارها على السمع مثل قوله: الدهر فيما قضى لي يا رفاقة جار بفراق شخص الأودة لا بدار وجار يا دهر مالك عليّه للمصايب جار ما تشوف دمعي تحدّر في الخدود وجرى والقلب مني ظعن خلف الحبيب وجرى وان كان عمري قضى وامر المقدّر جرى ردوا خبرنا وعزوا للأهل والجار حياة في المعاناة وتجربة حافلة بالمتناقضات والتقلبات اختتمها الشاعر بأيام ذهبية في رحاب دبي، حيث نضجت تجربته الشعرية، وبلغ درجة اجتماعية في أوساط رفيعة بين حكام الإمارات صحبة في المجالس والمنتديات ورفقة في الزيارات الرسمية، وانتشاراً لابداعه الرفيع المتسم بالحكمة وسداد الرأي والاتزان. والنسخة التي بين يدي كتبت بخط اليد كما أشرت آنفا، وقد منيت باخطاء إملائية وطباعية مما شوه بعض الأبيات ومنع من اختيارها، وقد نطلع على الطبعة الثانية والتي ستكون – بلا شك – أكثر وضوحا وشمولا ووفاء بمسيرة الرجل. وفي الختام الشكر والتقدير لدولة الإمارات العربية المتحدة على جهودها في سبيل نشر التراث الشعبي والاحتفاء برواده، وللباحت القدير الأستاذ بلال البدور على هذه الدراسة الثرية، التي أنصفت شاعراً بنشر إبداعه وشيء من سيرته رحمه الله.