القدرة على الابتكار والتجديد مَلَكة عظيمة لا تؤتى إلا لقلة قليلة من المبدعين، وابتكار الشخص لشيء مفيد أمر عظيم لكنه يتطلب في الغالب وجود سمات خاصة ومميزة في شخصيته وقدراته العقلية ويستوجب اطلاعاً واسعاً على جهود الآخرين في المجال الذي ينتمي له ابتكاره؛ لكن الابتكار في مجال الشعر أصبح مؤخراً ك(ليلى) المسكينة التي يدّعي كل العشاق وصلاً بها وهي تتبرأ منهم ولا تُقر لهم بذلك؛ وقد سبق للباحث المعروف إبراهيم الخالدي أن تحدث عن كثرة دعاوى اختراع البحور الشعرية عند شعراء القلطة في كتابه (طواريق النبط)، وأكد على أن "تاريخ الشعر العربي .. أثبت أن اختراع البحور ضرب من ضروب الخيال"، وذكر أن ما يتحدث عنه الشعراء على أنه (اختراع للبحور) هو مجرد إبداع تلحيني يتكئ على فهم موسيقي جيد لتراكيب اللغة".! ومن مزاعم الابتكار الكثيرة والعجيبة التي اطلعت عليها ما كُتب تحت عنوان: "عهد جديد للشعر، شاعر قطري يبتكر نوعاً جديداً للشعر تحت مُسمى الشعر التقني ويراهن على احتراف شعراء العالم له مُستقبلاً!"؛ وحين قرأت كلام الشاعر (التقني) في التنظير لاكتشافه وجدت كلاماً فيه من التمجيد والتضخيم ما يخجل أعظم المخترعين -الذين أسهمت اختراعاتهم العلمية في التأثير على حياة ملايين البشر- من وصف ابتكاراتهم بكلام مثله أو قريب منه، فالشعر التقني يُعد بحسب كلام الشاعر المُكتشف: "فتحاً جديداً في الشعر، ومنعطفاً بل تطوراً في التجربة الشعرية الإنسانية على مر العصور"، وحين يحاول القارئ معرفة ماهية هذا الاكتشاف الذي يُسمى شعراً تقنياً لا يجد إلا تعريفاً غامضاً غائماً يدل دلالة أكيدة على أن الشاعر يجهل حقيقة اكتشافه، إذ يقول في تعريفه: "غرض مبتكر من أغراض الشعر، وهو وليد تجربة الإنسان الشاعر في عالم جديد يختلف اليوم عنه بالأمس"، ويُضيف موضحاً مضمون هذا الشعر "هو وصف دقيق لحرفة أو علم أو تجربة، فمثلاً أثر الحرفة الرومانسي في قلب الشاعر المحترف المهندس يصف مداخل الديناميكا أو تأثيرها السلبي/ الإيجابي على المجتمع من وجهة نظر المهندس"..! وبما أنني أحد الذين يجدون صعوبة بالغة في فهم تنظير المبتكرين فقد قرأت قصيدة الشاعر التي قال إنها مثال لتوضيح اكتشافه الشعري فوجدته كلاماً عادياً يزيد (الطين بلة) ويزيد الغموض غموضاً أمام الراغب في الاستفادة، وهذا الأمر يؤكد حقيقة مهمة وهي أن الاكتشاف لا يمكن أن يُصنف كاكتشاف إلا إذا كان ذا قيمة وفائدة ملموسة للمهتمين، ولو كان هذا الاكتشاف الشعري المزعوم حقيقياً وله قيمة حقيقة لما توانى الشعراء المبدعون عن الاهتمام به لإثبات قدراتهم وريادتهم في كتابته..؟!