يرى بعض المفسرين أن المعيشة الضنك عامة في دار الدنيا وليست مقتصرة على دار الآخرة التي أول منازلها القبر، وذلك بما يصيب المُعرض عن ذكر ربه من الهموم والغموم والآلام التي هي عذاب معجّل، وفي دار البرزخ والدار الآخرة نصيب آخر منها. ومن أولويات "الذكر" الإيمان بالله تعالى، فهو أساس الدين كله، ومع أنه مطلوب لذاته، فإنه يطلب كذلك لما يُحدث في الحياة المعيشية من آثار تنعكس عليها بالخير والتوفيق، لأنه يصبغ كل الحياة به، وينال به الخيرية، ومصداقه قوله تعالى: (ألا بذكر الله تطمئن القلوب)، وقوله تعالى: (فمن اتبع هداي فلا يضلّ ولا يشقى، ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا)، لأن الحياة المقطوعة الصلة بالله وهداه ورحمته هي ضنك مهما يكن فيها من متاع الدنيا وسعة الحال، لأنه منقطع الصلة بالاطمئنان بالله وحماه، ما ينتج الحيرة والقلق، مع الحرص على ما في اليد والحذر من الفوت، مع ضنك آخر وهو الجري وراء بارق المطامع والحسرة على كل ما يفوت، ولكن لن يشعر القلب بالطمأنينة والاستقرار إلا في رحاب الله، وحينما يتمسك بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها فيشعر حينها بالراحة الواثقة، لأن طمأنينة الإيمان هي التي تضاعف الحياة طولاً وعرضاً وعمقاً وسعة، كما أن الحرمان منها يعد شقوة لا تساويها شقوة الحرمان والتيه. ولهذا فللإيمان بالله أثرٌ في حياة الإنسان، مع ما اعترى ذلك من فتور وارتخاء لعدة أسباب، فبلغ أقصاها موجة إلحادية عاتية زعمت بأن الإيمان بالله يعطل طاقات الإنسان عن العمل والإنتاج، حتى قيلت العبارة الشهيرة: (الدين أفيون الشعوب)، في حين أن الإيمان هو المحفز للإنتاج، والمسعد للنفس، ومن جهة أخرى النفعية الغربية ورائدها الأكبر ويليام جيمس الذي يرتبط فكرياً بما تؤول إليه حظوظها من الثمرة الأنانية المجردة، وقريباً منه المنزع العلماني المتحلل من الروابط الإيمانية. يرى بعض المفسرين أن المعيشة الضنك عامة في دار الدنيا وليست مقتصرة على دار الآخرة التي أول منازلها القبر، وذلك بما يصيب المُعرض عن ذكر ربه من الهموم والغموم والآلام التي هي عذاب معجّل، وفي دار البرزخ والدار الآخرة نصيب آخر منها. وللإيمان بالله تعالى أثر في تزكية الفرد ومن ثم راحته في نفسه وإسعاده لغيره، فتنمو النفس بالخيرات والبركات، وتثمر الطاقات وتبدع الأفكار؛ حيث يجمع بها ثلاثة أبعاد تجمع النفس بالفكر والعمل، كما تزكي النفس بالأحاسيس الكريمة والنوازع الفاضلة، فتسلم من الاضطرابات والاهتزازات التي تفضي إلى القلق والحيرة والتخبط، وتتحقق الطمأنينة النفسية والأمن الروحي، مع عزة وقوة، لأن النفس قد تصيبها الذلة والوهن بسبب تسلط القهر والاستبداد، سواء أكانت بهوى أم شهوة، فتصادر حينئذ الحقوق والحريات في التفكير والتعبير والتدبير، لأن الرقاب تم إخضاعها لتلك الإرادات المتسلطة، ولذا يشعر المؤمن بالله بمستوى العزة والقوة اللتين تتحققان في النفس، وهذا مثل قصة عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - عند هجرته للمدينة حينما طاف بالبيت سبعاً، ثم أتى المقام فصلى، ثم وقف وقال: (شاهت الوجوه، لا يرغم الله إلا هذه المعاطس، من أراد أن يثكل أمه، أو ييتم ولده، أو يرمل زوجته فليلحقني وراء هذا الوادي)، مع أنه كان يسع الفاروق أن يهاجر دون هذا التحدي وذلك بأن يغادر إلى المدينة خفية، ولكنها القوة التي استشعرها في نفسه لاعتزازه بالله سبحانه. كما أن لتزكية الفكر دورها في الحياة، وذلك بسعة النظر في مخلوقاته، وتحرر الفكر من العبودية لغير الله، مع وحدة المعرفة لما يجري في هذا الكون الفسيح، ومن ثم يأتي دور التزكية للعمل عبر السلوك التطبيقي المحقق للتصور النظري، وهنا نستحضر قوله تعالى: (قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالاً، الذين ضلّ سعيهم في الحياة الدنيا، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً)، وأما المؤمنون بالله فأعمالهم زكية ومثمرة في الدنيا والآخرة. ويتوسع نفع الإيمان من الفرد إلى الجماعة، حيث يزكي المؤمن البعد الجماعي، بوحدة الجماعة بلا فردانية، ووحدة الشعور بلا أنانية، ووحدة الولاء بلا انتهازية، ووحدة الغاية لله بلا شرك، مع تحرر من روابط الدنيا ودناءاتها إلى سعة العبودية الموحدة لله دون سواه من خلقه، ولابد حينها من تكافل أخوي وتناصر إيجابي، وحينما تتحقق هذه الركائز فسوف تنتج السعادة الدنيوية قبل الأخروية لقوله تعالى: (من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينّه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون). ومن ثمرات الإيمان بالله حسن الحوار مع الغير، والحوار الناجح لا يقوم على تحقير أو استعلاء، ولا يتحقق من غير المخلصين المؤمنين بما يحملونه من قناعات، كما يجب التفريق بين المحكمات وغيرها، وفي نفس الوقت قد يفسد الحوار بسبب المصطلحات المتكلفة، فأي مصطلح له إسقاطات غير مقبولة فيجب تجنبها، لأن الكثير من المصطلحات غير محررة، وبالتالي توقع في الإشكال وتصبح أداة خلاف بدلاً من أن تكون وسيلة اتفاق أو حتى وفاق، والمجتمع بحاجة ماسة إلى التواصل والتعارف والتواد، ولو لم يكن هناك اتفاق، إلا أنه لابد من الوفاق، وبكل سمو ورقي، وإذا لم يكن حوارنا مقنعاً فلا أقل بأن يكون مؤثراً، ولو في شكله الهادئ قبل مضمونه الهادي، ولابد أن نستحضر بأن ثقافة الحوار تعني النصح والتناصح بين الطرفين بلا تعالٍ ولا احتقار، والعلماء في تاريخنا الإسلامي عُرفوا بهذا الأصل والأدب، والذين بقي أثرهم وعم نفعهم في تراثنا هم الذين أجادوا المجادلة والمناظرة والحوار، فتجددت منتجاتهم العلمية وحييت آراؤهم الفكرية، حاملة العقل والإقناع، وباحثةً عن الحق والعدل، وأما طريقة الإكراه والتسفيه فلن تحقق الهدف، ومن رغب المحبة وطلب المودة وتمنى الهداية وسعى للتوفيق فسيظهر جميع ذلك بين حروفه وعطر أنفاسه، وأما التشنج والانفعال، على مرّ المواقف والأحوال، فلا ينتج إلا عكس ما أراده جميع الأطراف، في حين أن الكلمة اللينة، والعبارة الهادئة تحقق الكثير في النفوس ولو من باب الحياء والتقدير، ولكن العكس بعكسه، فيحصل التكابر والتعزز بالآراء ولو كانت في بواطنها محل شك في النفس قبل الآخر، ولذا يظهر فساد المنطلق وخسارة النتيجة في آن واحد، فلا الأول حقق مطلبه، ولا الآخر تزحزح عن قناعته، ولكن المخلص الأمين لا يلتفت للناس أجمعين، وإنما يراعي رب العالمين، بأن يلتزم وسائل التأثير، ولو انتقده المقربون ورموه بشتى النعوت والأحكام. إذن فلماذا لا نطبق ثقافة الحوار كما هي في مراجعنا الدينية، حتى لا نتناقض بين النظرية والتطبيق، ولنصل إلى الحوار الناجح الصالح النافع في المجتمع على جميع الأصعدة؟ ذلك الحوار المبني على تقنية ومهارة وقدرات، ونركز على امتلاك كل فرد منا القدرة على الحوار الإيجابي، ولأننا في الغالب أصحاب ردود أفعال ولا نلتفت للوراء، ومن باب أولى لا نستشرف للأمام؛ فلم نحقق في كثير من اختلافاتنا إلا تحويلها إلى خلافاتٍ وصراعات.. وإذا رجعنا إلى ميادين تلك المسماة تجاوزاً بالحوارات، لا نجد أي نتيجة إيجابية، في حين رأينا النتائج السلبية وعدم تحقيق أي مصلحة دينية أو دنيوية ؛ حيث بدأناها حراكاً، وصيرناها عراكاً وأوصلناها إلى أعلى النزل في فحشها الظاهري والباطني، ولذا نسأل ماذا تحقق من مصالح عامة جراء تلك المعاركات؟ لم يتحقق سوى بعض المصالح الخاصة التي ركبت كل موجة بزعم النصرة للحق والذب عن الحقيقة، ولكنها لا تتأمل النتائج في نهاية كل حالة، لتكرر نفس الأخطاء من جديد دون إدراك. وعلى الله قصد السبيل