قبل أكثر من ستة عقود، وتحديداً في العام 1368ه أمر الملك عبدالعزيز( طيب الله ثراه ) بإنشاء مكتب الجهاد والمجاهدين، وكان هذا المكتب نواة تأسيس الحرس الوطني، حيث صدر في العام 1374ه أمر ملكي بتحويل هذا المكتب إلى الحرس الوطني في جميع أنحاء المملكة. وكان العام 1382ه نقطة التحول الحقيقية في تاريخ الحرس الوطني؛ وذلك عندما صدر أمر ملكي بتعيين خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز( يحفظه الله ) رئيساً للحرس الوطني، حيث وضع تصوره الشامل والنابع من قناعاته بمستقبل الحرس الوطني، فجاءت الخطط الطموحة متوافقة مع نظرته الثاقبة لهذا المستقبل. عندها بدأت الانطلاقة الكبرى بانتقال الحرس الوطني من مجرد وحدات قتالية تقليدية مكونة من المجاهدين والمتطوعين وثكنات متفرقة من الخيام إلى منظومة حضارية شاملة ومتكاملة يندر وجود مثيلٍ لها في المملكة؛ فبالإضافة لتحول الحرس الوطني إلى منشأة عسكرية على مستوى عالٍ من الاحترافية، أصبح أيضاً منشأة صحية ومنشأة تعليمية ومنشأة حضارية تشمل خدماتها سائر أنحاء المملكة. إن ما تحقق للحرس الوطني هو بفضل من الله ثم برعاية ومتابعة متواصلين من لدن خادم الحرمين الشريفين ( يحفظه الله) عندما كان رئيساً للحرس الوطني، وبمساندة من صاحب السمو الملكي الأمير بدر بن عبدالعزيز، عندما كان نائباً لرئيس الحرس الوطني، وذلك بناء على أمر ملكي صدر بتعيين سموه الكريم في هذا المنصب عام 1387 ه. واليوم تحتفل كلية الملك خالد العسكرية بتشريف صاحب السمو الملكي الأمير متعب بن عبدالله بن عبدالعزيز لحفل تخريج الدورة الثانية والعشرين من الضباط الجامعيين والدفعة السابعة والعشرين من طلبة الكلية، وبالرغم من أن هذه الفرحة تتكرر سنوياً وبرعاية من سموه الكريم؛ إلاّ أن احتفالية هذا العام تختلف عن سابقاتها، فجميع منسوبي الكلية قيادة وضباطاً وأعضاء هيئة تدريس وموظفين وأفراداً وطلبة، تغمرهم فرحة عامرة، وهم الذين يحتفلون بسموه الكريم راعياً لحفل التخريج وهو رئيس للحرس الوطني، حيث صدر أمر ملكي كريم بتاريخ 11/12/ 1431ه بتعيين سموه وزير دولة وعضواً في مجلس الوزراء ورئيساً للحرس الوطني. وإن كان هذا الأمر الملكي الكريم تتويجاً لمسيرة سنوات من العطاء بذلها سموه الكريم في خدمة دينه ثم مليكه ووطنه، إلاّ أن منسوبي الحرس الوطني عموماً، ومنسوبي كلية الملك خالد العسكرية على وجه الخصوص، لديهم إيمان راسخ بأن هذا التتويج ما هو إلاّ بداية جديدة ودفعة قوية لمزيد من العطاء وتحقيق الانجازات ومواصلة خطوات التطوير والبناء، وذلك لما يتمتع به سموه من حنكة ورؤية مستقبلية طموحة. فسموه الكريم منذ صباه الباكر، وهو في كنف خادم الحرمين الشريفين وحتى تعيينه رئيساً للحرس الوطني، وهو يتابع ويشارك في عملية التأسيس والبناء. وقد كان ابتعاث سموه الكريم إلى كلية ساندهيرست الشهيرة في بريطانيا وتخرجه فيها برتبة ملازم ثم قرار تعيين سموه ضابطاً في مدارس الحرس الوطني العسكرية هو بداية المسيرة العملية لسموه في جميع خطوات تطوير وتحديث قطاعات الحرس الوطني المختلفة. وقد كان هاجس سموه الكريم هو الاستثمار في بناء الإنسان، وذلك عن طريق التعليم والتدريب والتأهيل. فعلى مستوى إعداد وتأهيل ضباط الحرس الوطني، وفي العام 1385ه أصدر خادم الحرمين الشريفين عندما كان حينها رئيساً للحرس الوطني أمراً بافتتاح جناح المرشحين، تلا ذلك تأسيس المدرسة العسكرية لتخريج الضباط في العام 1393ه ، وبعد تحويل مسماها إلى مدارس الحرس الوطني العسكرية، ساهم سمو الأمير متعب في إدارتها وتطويرها، وفي عام 1410ه صدر أمر ملكي بإنشاء كلية الملك خالد العسكرية، حيث صدر قرار خادم الحرمين الشريفين بتعيين سموه رئيساً للجنة المكلفة بإعداد مناهج الكلية، وفي العام 1403 ه أصدر (يحفظه الله) حين كان ولياً للعهد ورئيساً للحرس الوطني أمراً بتعيين العقيد متعب بن عبدالله بن عبدالعزيز قائداً لكلية الملك خالد العسكرية. وخلال ما يزيد على ربع قرن من قيادة سموه تحولت الكلية من مجرد منشأة تعليمية عسكرية إلى مؤسسة حضارية تقدم كافة علوم المعرفة لمنسوبيها وطلبتها، وتنظم الدورات التدريبية والمؤتمرات العلمية والندوات والمحاضرات المتخصصة والهادفة. وقد تمثلت الخطوة المهمة والنقلة النوعية في مسار التعليم العسكري وتأهيل الضباط بالحرس الوطني في إعلان سموه في العام 1431 ه بصدور موافقة خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز القائد الأعلى لكافة القطاعات العسكرية على إنشاء كلية للقيادة والأركان بالحرس الوطني. ولم تقتصر عملية إعداد ضباط الحرس الوطني على الدراسة والتدريب داخل المملكة بل حرص سموه الكريم على الاستفادة من التجارب العالمية في هذا المجال، وذلك بوضع خطة سنوية مدروسة لابتعاث الضباط للدراسة والتدريب في مختلف التخصصات العسكرية والمدنية التي تدرّس في المدارس العسكرية والجامعات المرموقة في جميع أنحاء العالم. كذلك لم تكن عملية الإعداد والتأهيل محصورة في الضباط، بل شملت إعداد وتدريب الأفراد في كافة التخصصات بدءاً من تدريبهم في مراكز تدريب المستجدين ومدارس الحرس الوطني العسكرية ومدرسة سلاح الإشارة ومدرسة العلوم الصحية المساعدة والمعاهد التدريبية الأهلية المتخصصة. كما أن عملية الإعداد والتأهيل الأكاديمي شملت ابتعاث العشرات من أعضاء هيئة التدريس بالكلية للحصول على درجتي الماجستير والدكتوراه فيما يقرب من العشرين تخصصاً أكاديمياً. وفي ميدان تسليح قوات الحرس الوطني، ساهم سموه الكريم في إحداث نقلة نوعية وكمية وتقنية في هذا المجال؛ فبالإضافة إلى الأسلحة الفردية، تم استيراد أحدث الأسلحة الرشاشة والمدفعية والمدرعة وأسلحة الإشارة، ولم تكن هذه الأسلحة من مصدر واحد، بل حرص سموه على تنويع مصادرها، وذلك باستيراد أحدث ما توصلت إليه التقنية العسكرية والصناعات الحربية في دول العالم المتقدمة في هذا المجال. وفي العام 1427 ه تم تتويج هذا التقدم التقني في مجال التسليح بالموافقة على إدخال الطيران العمودي ضمن تشكيلات الحرس الوطني، تبعه إنشاء قيادة للدفاع الجوي في العام 1429 ه. وفي مجال الاهتمام بمنسوبي الحرس الوطني؛ تم في العام 1406 ه افتتاح ست مدن سكنية عملاقة في جميع أنحاء المملكة. وفي العام 1431ه أعلن سمو الأمير متعب استحداث (1250) وحدة سكنية لمنسوبي وحدات الحرس الوطني بالمدينة المنورة، كما وقع سموه عقود إنشاء ( 17) ألف وحدة سكنية لصالح مشروع إسكان الحرس الوطني في كافة أرجاء المملكة، تتوفر فيها كامل الخدمات الترفيهية والتعليمية والأمنية والصحية. وقد تطورت الخدمات الطبية التي تقدم لمنسوبي الحرس الوطني، فمن مستوصف صغير في حي الشمسي بالرياض تم إنشائه العام 1380ه، إلى أربع مدن طبية في الرياضوجدة والدمام والإحساء، تحوي كل منها عدة مستشفيات ومراكز متخصصة في مختلف التخصصات الطبية والصحية، هذا إضافة إلى ما يزيد على ستين مركزاً من مراكز طب الأسرة والرعاية الأولية بفئاتها الثلاث، والمنتشرة في قطاعات الحرس الوطني في سائر أنحاء المملكة. وقد تمثلت النقلة النوعية في الخدمات الصحية بشقيها التعليمي والتطبيقي بالإعلان عن إنشاء جامعة الملك سعود بن عبدالعزيز للعلوم الصحية بالحرس الوطني في الرياض عام 1426ه ، عندما تفضل خادم الحرمين الشريفين بوضع حجر أساسها، وقام سمو الأمير متعب بن عبدالله بن عبدالعزيز بتوقيع عقود بناء منشآتها. وتحوي هذه الجامعة ثماني كليات متخصصة ومستشفى تخصصي للأطفال ومركزاً بحثياً وبنوك للأحماض النووية والخلايا الجذعية ومصنع كفاءات لتوطين الوظائف الصحية بالكامل وأربعة مراكز عالمية للسرطان والسكر وزراعة الأعضاء والعلاج الطبيعي. كما تمت الموافقة على إنشاء مدينتين جامعيتين في جدة والإحساء. وكان من اهتمام سمو الأمير متعب بالبحث العلمي الطبي أن أعلن إطلاق كرسي الأمير متعب بن عبدالله بن عبدالعزيز للأبحاث الحيوية لهشاشة العظام بجامعة الملك سعود، وذلك إيماناً من سموه الكريم بخطورة هذا المرض ومحاولة للحد من انتشاره. وفيما يخص التوعية الدينية؛ فقد تم إنشاء إدارة للشؤون الدينية في العام 1384ه ، وتم تطويرها في العام 1426ه لتصبح تحت مسمى جهاز الإرشاد والتوجيه؛ وذلك من أجل القيام بالعمل على نشر الوعي الديني بين جميع منسوبي الحرس الوطني، وبناء الجانب العقدي وتأكيده في نفوس منسوبي الحرس الوطني وتقوية ولائهم لدينهم وعقيدتهم، وتقديم المشورة الشرعية والدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة، والإسهام في المناسبات المختلفة كالحج والعمرة، وتنظيم مسابقات حفظ القرآن الكريم والسنة النبوية، وعقد المؤتمرات والندوات والمحاضرات العامة والمتخصصة، والتعاون مع الجهات والإدارات المشابهة في القطاعات العسكرية والأمنية المختلفة. وفي هذا المجال فإن صاحب السمو الملكي الأمير متعب بن عبدالله يرعى سنوياً مسابقة الحرس الوطني لحفظ القرآن الكريم، كما أنه يرعى مسابقة خادم الحرمين لحفظ القرآن الكريم والسنة النبوية ضمن فعاليات مهرجان الجنادرية الوطني للتراث والثقافة. أما في مجال الثقافة والتعليم؛ فقد تم في العام 1395ه تشكيل إدارة الثقافة والتعليم لتتولى مسؤولية إعداد البرامج التثقيفية والتعليمية وتنفيذها لمنسوبي الحرس الوطني، فأخذت تمارس مسؤولياتها ضمن مسارين هما: تعليم الكبار ومحو الأمية للعسكريين، والتعليم العام لأبناء منسوبي الحرس الوطني. ومع الحاجة إلى تطوير الجهود المبذولة وتحسين الأداء في هذين المسارين من التعليم بما يساير متطلبات العصر أنشئت وكالة الشؤون الثقافية والتعليمية في العام 1402ه لتتولى مسؤولية الإشراف على تنفيذ التعليم في الحرس الوطني وتطويره، فكان من أولوياتها وضع برنامج للقضاء على الأمية بين منسوبي الحرس الوطني في وقت قصير، والنهوض بالتعليم العام ليكون التعليم في الحرس الوطني مواكباً للنهضة التعليمية الكبيرة بالمملكة، وكان من نتائج هذا الاهتمام فوز الحرس الوطني في العام 1420 ه بجائزة اليونسكو للدور الريادي الذي يقوم به في مجال تعليم الكبار، كما تم تجهيز المدن السكنية بمدارس التعليم العام بجميع مراحلها من رياض الأطفال إلى المدارس الثانوية. ونظراً لما للرياضة من دور في رفع مستوى اللياقة البدنية لدى منسوبي الحرس الوطني، واستغلالاً لأوقات فراغهم فيما يعود عليهم بالنفع والفائدة، فقد تم استحداث إدارة الشؤون الرياضية بالحرس الوطني، وفي العام 1392ه تم تأسيس نادي الحرس الوطني بالرياض ثم نادي الحرس الوطني بجدة في العام 1396ه، وذلك للإشراف على جميع الرياضات التي تمارس بالكرة ورياضات الدفاع عن النفس والرماية والسباحة وركوب الدراجات. وفي العام 1405ه تم افتتاح نادي ضباط الحرس الوطني. وقد كان من نتائج هذا الاهتمام فوز منتخبات الحرس الوطني بالمراكز الأولى في بطولات الهيئات بالمملكة وفي المحافل الرياضية الأخرى. كما أن مهمة أندية الحرس الوطني لا تقتصر على الرياضة فقط، بل امتد ذلك ليشمل المجالات الثقافية والفكرية والفنية والأدبية. وفي ميدان التراث والثقافة؛ فإن سمو الأمير متعب، ومن خلال إشرافه المباشر على اللجان العاملة بالمهرجان الوطني للتراث والثقافة، قد استطاع وعلى مدى ربع قرن ووفق خطط مدروسة تطوير المهرجان من مجرد سباق سنوي للهجن إلى مهرجان وطني لسباق الهجن والفنون الشعبية والحرف التقليدية، حيث كان للمهرجان دور كبير وفعال في الحفاظ على هذا التراث الوطني والموروث الحضاري من الاندثار، هذا إضافة إلى توجيهات سموه الكريم بالاهتمام بالمسرح السعودي والمحاضرات الأدبية والأمسيات الشعرية بشقيها الفصيح والشعبي، كما أصبح المؤتمر العلمي الذي يعقد خلال أيام المهرجان محط أنظار علماء ومثقفو العالم، حيث يدعى له سنوياً العشرات منهم. وكان من نتائج المهرجان المهمة أيضاً أن أصبح للعرضة السعودية يوماً يتم تشريفه من قبل خادم الحرمين الشريفين( يحفظه الله) والأسرة المالكة الكريمة، يشاركهم في ذلك المواطنون سواء بالحضور في صالة الاحتفال أو من خلف شاشات التلفزيون، هذا بالإضافة لأوبريت الجنادرية السنوي، والذي ينتظره الجميع من مسؤولين ومواطنين وشعراء وفنانين بشغف، ويتنافسون على المشاركة فيه. وفي ميدان رياضة الفروسية العريقة؛ فقد سخر الأمير متعب بن عبدالله رئيس اللجان الفنية بنادي الفروسية كامل إمكاناته وعلاقاته لخدمة هذه الرياضة العربية الأصيلة؛ فمنذ إنشاء نادي الفروسية في العام 1385ه، وبعد أن كانت هذه الرياضة لا تحظى بالاهتمام اللائق، أصبحت من الرياضات التي تحظى بمتابعة الجميع، وتم إنشاء أندية للفروسية ومراكز لمزادات الخيل وأندية خاصة لركوب الخيل في جميع أنحاء المملكة، واهتم أصحاب السمو الأمراء والمسؤولين ورجال الأعمال والمواطنون بإنشاء إسطبلات الخيل واقتنائها، كما تم إنشاء الاتحاد السعودي للفروسية، وميدان الملك عبد العزيز للفروسية. وكان من أبرز نتائج هذا الاهتمام برياضة الفروسية أن أُعتمد في العام 1992 م السجل الأول لأنساب الخيل العربية الأصيلة بالمملكة بعد مفاوضات دامت عدة سنوات، كما أن خيول المملكة بمختلف ملاكها حصلت على المراكز الأولى عالمياً في سباقات الخيل ومسابقات جمالها ورياضة قفز الحواجز، وليس أدل على اهتمام سمو الأمير متعب بن عبد الله برياضة الخيل من أن أصبح ابنه الأمير الفارس عبد الله بن متعب بن عبد الله أحد أشهر فرسان العالم في رياضة قفز الحواجز. وبعد فما هذا إلا غيض من فيض، في مسيرة العطاء والإنجاز التي بذلها صاحب السمو الملكي الأمير متعب بن عبد الله بن عبد العزيز وزير الدولة وعضو مجلس الوزراء ورئيس الحرس الوطني في خدمة دينه ثم مليكه ووطنه، وما كان ذلك ليتحقق، إلا بما يؤكد عليه سموه ويكرره دوماً؛ وهو توفيق الله أولاً وآخراً، ثم بالدعم والمتابعة المتواصلين من لدن خادم الحرمين الشريفين القائد الأعلى لكافة القطاعات العسكرية وصاحب السمو الملكي الأمير سلطان بن عبدالعزيز ولي العهد وزير الدفاع والطيران والمفتش العام وصاحب السمو الملكي الأمير نايف بن عبدالعزيز النائب الثاني وزير الداخلية، حفظهم الله وسدد على دروب الخير خطاهم. *أستاذ التاريخ المشارك