في كتابِ "المُكوِّن اليهودي في الثقافة الغربية" للدكتور سعد البازعي، وصفٌ مدهش لحالة مأزق الانتماء اليهودي، حيث يتحدث عن اليهودي المتجول، المفتقر على الدوام إلى مكان أو وطن ينتمي إليه، وهو إذ لا يجد ذلك الوطن فإنه لا يسعه إلا أن يتلبس لباساً آخر يمنحه ذلك الانتماء الذي يفتقر إليه. قد يبدو هذا اختزالاً مخلاً بعمل كبير وموسوعي في مجاله، إلا أنه يبدو مناسباً للتقديم في الحديث عن إحدى أشهر أغاني ما يسمى "أورينتال فوكس تروت"، والتي كانت تدور مواضيعها في أجواء استشراقية تُعنى بالشخصيات المشرقية والحياة في الشرق الأوسط والذي كان حتى ذلك الوقت عالماً سحرياً يجسد الغموض المدهش لكل ما هو غربي، فقد كانت معرفة الشرق الأوسط، على الأقل على مستوى واقعه، حكراً على السياسيين والدارسين والباحثين من المستشرقين، دون العامة من الناس الذين كانوا مفتونين بقصص كيلوباترا وحريم السلطان وأسواق البازار والرجال المتمنطقين بالسيوف والمتوشحين بالعباءات. في الأغنية القديمة (ريبيكا العائدة من مكة - Rebecca Came Back From Mecca) التي كتبها بيرت كالمار وهاري رُبي، وسجلت عام 1921م، يروي المغني بلهجة اليهودي اليديش القاطن في نيويورك، حكاية فتاة يهودية اسمها ريبيكا، وأحداث ما بعد عودتها من مكة المكرمة!. ريبيكا الفتاة ذات التطلعات الفنية، شاهدت ذات يوم عرضاً مشرقياً متنقلاً في مدينتها، الأمر الذي فتنها وجعلها تشارك في المعرض وتسافر معه بعيداً إلى تركيا كما يروي الراوي، وتركيا ليست إلا الدولة العثمانية ذات المساحة الهائلة والتي كان إقليم الحجاز من ضمن سلطانها الواسع. وفي مكة قضت ريبيكا العديد من الليالي الملتهبة مناخاً لكنها ألهبت عقلها بالمعلومات التي كانت تحرص على تعلمها عن المشرق وثقافته، وعندما كانت تنام في تلك الليالي الحارة لم تكن لتنسى المبخرة التي تطرد بعبق بخورها الظلال التي تزحف على جدار غرفتها الأثيرة، وعلى بابها حارس صغير العمر. لقد كانت تسكن قريباً من عرين السلطان، حيث قضت ما يقارب العامين، وهي تتشرب الكثير من الأفكار الجديدة. عندما عادت إلى نيويورك في مسكنها الذي يقع في الشارع المقابل لراوي الأغنية، كانت في الثالثة والعشرين من عمرها، متحررة من انتمائها اليهودي، حيث كانت تقضي معظم اليوم تدخن الأرجيلة التركية. تلبس النقاب على وجهها وترقص ذارعة أرض البيت، وبالأمس فقط كما يقول الراوي وجدها أبوها ملتحفة بالفوطة التركية، الكل أصبح قلقاً، لقد اعتقدوا أنها مختلة. لقد كانت جريئة أكثر من اللازم، تشابه في جرأتها جرأة ثيدا بارا الرمز الأنثوي الأبرز في تلك الحقبة التي كتبت فيها الأغنية. أم ريبيكا يقتلها الحزن وأخوها "مو" غاضب للغاية، وللنكاية به أكثر من ذلك كله، فإن ريبيكا تصر على مناداته بمحمد. ما زالت تقضي الأيام بثيابها الفضفاضة على سجادتها الفارسية، ودخان الأرجيلة حولها يعزز من تهمة الجنون التي يصفها بها الكل، حتى أن أختها التي غامرت مرة بارتداء ملابسها، رحلت عن العالم بعد إصابتها بذات الرئة. في كلمات الأغنية إيحاء بأن ريبيكا قد تكون أسلمت وهو ما يبرر عيشها فترة من الزمن في مكة التي لا يمكن دخول غير المسلمين إليها، كما أنها فيما يبدو قد ارتبطت بأحد المقربين من السلطان وهو ما يفسر قول الراوي أنها ساهمت في تفكيك عرش السلطان، الأمر الذي يمكن ربطه بالقول الذي يؤكد على تأثير يهود الدونمة في سقوط الدول العثمانية عام 1923م. كما أن إيراد اسم ثيدا بارا الممثلة الشهيرة بدورها في فيلم كيلوباترا الصامت عام 1917م، إسقاط على حالة التمرد التي عاشتها بارا ضد أصولها العرقية والدينية. غنى الأغنية الممثل والكوميدي الشهير مونرو سيلفر الذي اشتهر باستخدامه لكنة اليهود اليديش في الكثير من الأعمال التي قدمها، والتي حاول بعده الكثير من الفنانين اليهود وغيرهم تقليدها دون جدوى، وقد ناسبته الحكاية التي كتبها ولحنها كالمار وربي، الفريق الأبرز من يهود نيويورك في كتابة الأغاني في تلك الفترة، حيث اشتهرت العديد من أعمالهم مثل "ثلاث كلمات صغيرة" عام 1930، حيث أصبح عنوانها فيما بعد اسماً لفيلم موسيقي يتحدث عنهما تم عرضه عام 1950م.