حينما يتحدث الشيخ عبدالرحمن الملا فإنك تتذكر رائحة نخيل قادم من الأحساء التي تلفعت بحبه إليها كما تتلفع امرأة نوت على الحج في يوم عرفات ... ففيه تتحسس كيف للأرض طعم الدوران في كل التفاصيل الصغيرة التي يبصرها بقلبه الذي لايملك النور إلا به ... وعلى شسوع بصيرته تلك .... عرف كيف يقفز فوق حواجز الحواس وفوضتها ليعيش لذة الرؤية الحقيقية للأشياء في الكون ... فيدس أصبعه في لون الشمس وهدير الماء ورصيف مجاور للإبداع، ثم يوقض الليل بالشعر المباغت له في النعاس، فتوقظه البصيرة الحقيقية ليعيش الحلم كمار آه على أنه حقيقة .. ثم يتحدث إليك باللغة الفصحى لتشعر بأنك في تأرجح بين لغة القرآن، وبين أبوته الحانية الطافحة حينما يجرب أن ينسج الكلمات لتتفجر زهورا اغتسلت بساقيها لدى بحور الثقافة والإنسانية وطرافة الحس والوقار معا... فتشكل الشيخ عبدالرحمن الملا كمثقف " فاقد لبصره " لكنه يمتلك بصيرة الروح ... يعي " الملا " ذلك جيدا حينما قال " إذا استطاع الإنسان أن يكتشف الكنوز التي بداخله والتي وهبها الله – سبحانه – له فإنه يهون عليه استثمارها والاستفاده منها وتنميتها فلا تستطيع العقبات الوقوف أمامه مهما كانت " ... ومن هنا تتجسد لدينا شخصية الشيخ " الملا " الذي تعلم وتثقف وحفظ منذ الصغر ليصبح المثقف الذي لايبصر بعينيه بل بروحه وقلبه ... فكيف لهذا المثقف أن يغرف من بحور المعرفة وهو الذي لم يتنسى له مايتنسى لغيره من المثقفين من صنوف المجالات التي أصبحت تتنوع بين الكتب والمطبوعات وبين وسائل الاتصال الإلكترونية .... إن للشيخ " عبدالرحمن الملا " حديثاً طويلاً عن اكتسابه للثقافة ثم دخوله بوابة الشعر والأدب وصولا إلى عالم الانترنت وهو " الشيخ الكفيف الشجاع " .. رباط الملا العلمي أول المؤسسات الثقافية. يتنقل بين المواقع الإلكترونية ويقرأ المقالات دون مساعدة أحد مازال الشيخ الملا يتذكر طفولته الزاخرة في بيئة علمية والتي منها تعلم كيف يكتشف ذاته المليئة بالإرادة والموهبة... فعلى الرغم من فقده البصر في سن الخامسة إلا أنه كان يتلقى التشجيع من والده وأسرته على التعلم والتي كانت غالبية النساء فيها متعلمة في وقت كان النساء لايتعلمون قبل 65 سنة، فوجد في المرأة نموذجا للوفاء والرعاية منذ نعومة أظافره فقد حظي باهتمام أربع سيدات من أسترته كنا يقرأن له الكتب وهو طفلا، ثم يأتي " رباط الملا " العلمي وهو مأوى لطلبة العلم من الغرباء الذين يأتون من الخارج من أقطار الخليج وأيضا طلبة العلم من الداخل للنهل من المعرفة التي كانت تقدم في ذلك الرباط ، فنشأ طفلا معلقا قلبه بالعلم والمعرفة التي كان يقضي اليوم بأكمله في التشرب بها، بالإضافة لوجود مكتبة زاخرة بالكتب القيمة في منزله والتي كان يقرأ منها الكثير، وربما استعار من خاله الشيخ عبد الله الملا " مؤسس أول مكتبة بالتعاون الثقافي بالأحساء عدة كتب ليقرأها في " الرباط " يساعده في ذلك أستاذه الأزهري – عبدالمحسن الحورالي - التي عينه والده وكان يحضر للمجلس بشكل دائم، فتعلم على يده مبادئ النحو وبعض العلوم الأخرى ، حتى تعلق قلبه بالمعرفة ، فالتحق بالمعهد العلمي ووجد اهتماما كبيرا من الشيخ عبدالله الخميس " رحمه الله الذي كان يشجع مايكتبه من الشعر ويقرأ له، فللعلاقة المتينة التي تربطه بوالد الشيخ الملا " دور في تردده الدائم لمنزله الأمر الذي زاد من تشجيعه له على القراءة والمعرفة حتى كان يقول له " لاينبغي لمن هو مثلك أن يفرط في أي وقت دون أن يقرأ " ... جهاز إبصار يمكنه من قراءة الصحف صباحا.. يدخل على مواقع النت إن لذلك التشرب بالمعرفة والثقافة بداخل الملا حكاية عشق بدأت تمتد بداخله في كل عام يكبر فيها، حتى أصبح يشعر بأن الثقافة تكبر معه فقرر أن يخصص له حينما كبر كاتبا يقرأ له ويرافقه في رحلة تعلمه وهو الشيخ – أحمد الظامري – الذي تولى تلك المهمة، وعلى الرغم من أن المثقف المصبر لديه القدرة على التنقل في أرجاء المكتبات واقتناء الكتاب الذي يحب مالا يتاح ذلك " للمثقف الكفيف " إلا أن " الملا " لم يقف فقده للبصر في انتقاء كتبه واختيارها من أرفف المكتبات فقد كان يعتمد على اختياره للكتب على مايقرأ من مراجع وكتب تستشهد بكتاب ما فيبحث عن ذلك الكتاب ويقرأ فيه من خلال " كاتبه " وربما للصحف وما يتخللها من إشارات لبعض الكتب دورا في تحديد ذائقته تجاه الكتب التي يقتنيها... فهو متابع جيد للصحف والمجلات، وكما يتدرج المثقف من اقتناء الكتاب وصولا إلى اقتحام المعرفة من وسائل الاتصال الحديثة كالإنترنت، فالملا تدرج أيضا كمثقف في اقتحامه لعالم الإنترنت والتنقل فيه بيسر وسهولة والدخول على مختلف المنتديات والمواقع المفيدة، فقد رسم ليومياته برنامج حافل بالمعرفة والثقافة فيستيقظ في السادسة صباحا تلك العادة التي لم تتغير منذ أكثر من 12 سنة حيث يتصفح الرياض والوطن والجزيرة والشرق الأوسط وغيرهم من الصحف على الإنترنت منذ الفجر وذلك عن طريق " برنامج الناطق " إبصار" الذي أصبح يعتمد عليه اعتمادا كاملا في الدخول لعالم الإنترنت ثم يخصص له وقتا لتصفح مايكتب من المقالات والموضوعات التي يهتم بها سواء في الأدب أو الفلسفة أو الطب وغيرها من العلوم. يستعيض عن القلم والورق في التدوين بالتسجيل لصوته وكما يتحول نظم الشعر إلى هاجس لدى الشاعر فيربطه بالقلم والورق وتولد بينهما حكاية عشق ممتدة ، يقتبسها الكاتب من اتساع بياض الورق وعتمة الحبر في القلم فإن للملا حكاية عشق مع نظم الشعر في الليل وحينما يكون نائما، فالملا لايعتمد كشاعر " كفيف " على الكتابة الورقية إلا أنه يعتمد في تدوين خواطره وشعره على جهاز التسجيل الذي لايفارق سريره حتى تشكلت علاقة حميمة بين جهاز التسجيل وسريره فقد تآمرا على أن يكونا تاريخ " حكاية قصيدة " يراها الملا في منامه وهو نائم وهو ينظم قصيدته الشهيرة " الإنسانية كما عرفتها " من ديوان أغاريد من الخليج فيستقيظ من النوم في منتصف الليل ليضغط على زر التسجيل ويبدأ في نظم تلك القصيدة كما رأى نفسه في الحلم وهو ينظمها حتى لاتتفلت منه والتي كانت أحد عشر بيتاً، حتى قرر بعد سنوات أن يضمنها في إحدى دواوينه المطبوعة إلا أنه وجد بأن عدد أبياتها قليلة فأشتغل على تلك القصيدة حتى أكمل أبياتها، إلا أن الملا يجد بأن مانظمه من شعر في حالة النوم أروع مما كتب في حالة اليقظة، وربما أعتمد الكثير من المبدعين على ماتقع أعينهم من جمال في الكون ليربطونها في شعرهم أو نثرهم بالعالم الداخلي، إلا أن الملا يجد بأن من يعتمد على مايبصره في الكون لرسمه في عالم الشعر والأدب فهو لايعلم كثيرا في أحوال النفس، فالإحساس الداخلي في تكوين الصور هو الأهم مما تبصره العين، وذلك مايبرر اختلاف ذائقة الناس في النظرة للقبح والجمال، فمقاييس تحسس الأشياء بعالمه هو المقياس الذي ينطلق من نظرية ماتراه بداخلك فهو مايبدوا في الحقيقة، فأبصر كل التفاصيل الصغيرة في الحياة فتذوق طعم الشمس ورائحة قهوة المقاهي، وتقاسيم وجه الأرصفة والشوارع الحديثة، وكيف يرتفع الكبري ثم كيف تهبط به الأرض في شوارع أخرى، كيف يتمتزج اللون الأخضر بالأزرق ، وكيف للأحمر لون الفتنة والبهاء ، حتى كتب ونظم الشعر في جميع تلك التفاصيل وصولا إلى الأصوات الجميلة في الحياة وكيف يبصرها، والتي من خلالها قاده يوما قلبه لرسم " امرأة أحسائية " لتسكن قلبه ويراها بداخله كقطعة جميلة من " شم الورد " فتحسس صوتها ورسمه بداخل أفقه حتى تحولت تلك المرأة إلى كائن شعر ينبض بالجمال والحب " فأشتق من رائحة نساء الأحساء نموذجا لحب لايخطئ طريقه إلى القلب، فكتب الكثير عنها حتى تحولت تلك المرأة إلى الأحساء ذاتها والأحساء هي تلك المرأة التي لم يهبه الله أن يتزوج بها، وبقي محتفظ بذلك القدر من الكنوز بداخله ليفتح في عالمه من خلاله كنوز الشعر المختلف، وليكتشف بعد مضي السنوات بأنه ظفر بزوجة استثنائية بدلت بداخله جميع صور النساء لتسكن هي بداخله ، فالملا يرى بأن من يعتمد على تحسسه الداخلي يفوق في قدرته على تحسس العمق من الأشياء أكثر مما يبصرها على حقيقتها في أرض الواقع لأن الرؤية بالشئ تحد من القدرة على التخيل، وربما ذلك مايبرر تميز الأعمال الإبداعية التي تعتمد على الخيال أكثر من الواقع في تجسيدها الملا يرسم التفاصيل بقلبه ( تصوير - عصام عبدالله) إن الظلام الذي سكن بصر الشيخ الملا لم يدفعه يوما أن يندم على فقده للبصر، فقد عاش كثيرا دون أن يشعر بالندم في أنه " كفيف " فعلى الرغم من الحالات القليلة التي تخللته في حياته والتي تمنى أن يكون فيها مبصرا إنما جاءت من " قضاء الحاجة " حينما يرغب بالتنقل من مكان لآخر فيصعب عليه ذلك فيتمنى عندها أن يكون مبصرا ليقود السيارة ، أما عن تمنيه أن يبصر ليرى بعض الأشياء في الحياة فلم يشعر بتلك الرغبة لأنه يشعر بأنه يبصر الأشياء بداخله فلاينقصه شيء ، وربما ذلك مادفعه لأن لايندم أو يحزن لعدم رؤيته لمولدته الأولى من بناته حينما ولدت فقد قال " رأيتها ببصيرتي لابصري " وذلك لديه الأهم ، ولذلك كتب قصيدته الجميلة في حفيدة " فواز " والتي يرى بأنها أجمل ماكتب من قصائد ، وقد يجد البعض في فقد البصر مصاب كبير يحرم المرء من الثقافة والتزود بالأدب والمعرفة المتنوعة إلا أن الشيخ " عبد الرحمن الملا " يجد بأن فقد البصر منحه قوة الإرادة وقبول التحدي ومضاعفة الجهد " ... كان ذلك الحديث مع الملا حديث نفس خلالها تنقلت بداخل ممرات النور التي يسكنها ولم يكتفي بأن تسكنه ، فهو مثالا حي للمثقف الحقيقي المبصر وإن فقد للبصر ، فهناك من المثقفين من يبصر الحياة لكنه يكون فاقد لجوهرها في حين بقي " الملا " محتفظا بذلك القدر الكبير والزاخر من حقيقة الكون، وكيف للإنسان أن ينعكس وعيه وفكره وثقافته على ممارساته اليومية والإنسانية والفكرية ... فهو رجل حقيقي ومحب " تكتشف ذلك حينما قاطعني في أسئلتي ليبتسم مبشرا ومستبشرا ويقول لي " أبشرك أنا أحب جميع الناس ولاأكره أحد " بتلك الجملة يصل الملا إلى أعلى درجات الوعي المستمد من التعلم الحقيقي حينما يصل المرء إلى مرتبة عالية جدا من الرقي فيشعر بأنه يحب الجميع ليس لشيء سوى لأنه متبصر حتى إن كان دون بصر. فالنور ينبثق من مايحمل هذا الكائن الواسع الذي بدواخلنا والذي أسمه " القلب " .... ولم أتق لشيء في حياتي يوما كما تقت أن أجرب أن أبصر العالم بقلب الشيخ " الملا " الرجل الشيخ المسن بقلب طفل أبيض .