حفلت حياة الناقد المصري الكبير الراحل الدكتور لويس عوض بمطاردات قاسية لبعض رموز الفكر العربي القديم والحديث، نافياً عنهم كل أصالة وخصوصية ينسبهما إليهم الباحثون العرب عادة. من ذلك مقالات مشهورة له عن أبي العلاء المعري ذكر فيها أن المعري طلب العلم في شبابه في بعض ديارات النصارى في اللاذقية حيث تشيع اللغة السريانية، وأن فكره بالتالي مدين لهذا المصدر الثقافي الأجنبي. ومن ذلك أيضاً ما ذكره في دراسته عن جمال الدين الأفغاني من أنه كان جاسوساً لأكثر من جهة أجنبية، كما كان زنديقاً وشاكاً، إلى ما هناك من المطاعن التي وجهها للأفغاني في دراسته. ولكن لعل دراسته عن ابن خلدون كانت قمة تجنيه على هؤلاء الرموز وتشويهاً لعبقريتهم وأصالتهم. فقد ذكر في هذه الدراسة أننا إذا أردنا أن نزن تراث ابن خلدون ونفهمه، علينا أن نعرف المصادر الثقافية التي تأثر بها ونهل منها. هذه المصادر الفكرية بعامة، هي مصادر الثقافات الإغريقية واللاتينية وثقافة أوروبا الوسيطة. وبنظره كان ابن خلدون بلاشك مطلعاً على كل هذا التراث، بعضه في العربية مترجماً، وبعضه في اللغات الأجنبية. ويرجح لويس عوض ترجيحاً يقرب من اليقين أن ابن خلدون كان يقرأ هذه المصادر الأوروبية باللغة اللاتينية، كما أنه كان يستخدم اللهجة الاسبانية. وقد حرص على اظهار أن ابن خلدون نقل آراء ووقائع اليونان والرومان وفلاسفتهم. كتب لويس ما كتبه عن ابن خلدون في جريدة «الجمهورية» المصرية في عام 1961 (15/9 و22/9/1961) ثم جمعت هذه المقالات لاحقاً في كتاب. وقد تصدى للرد عليه يومها نفر من الباحثين أنكروا ما ذهب إليه، وانتهوا إلى القول بأن ابن خلدون مجرد تلميذ عبقري للحضارة العربية الإسلامية لا لأي حضارة أخرى. فهو لم ينقل عن أوروبا القديمة أو الوسيطة، كما سبق أوروبا الحديثة. لقد ولد وتربى وتعلم وتفلسف في بيئة هذه الحضارة. فما هي مصادر الثقافة العربية التي أعطت ابن خلدون أهم أفكاره وأهم أسباب عظمته؟ لقد حرص ابن خلدون على أن يذكر لنا جذوره ومصادره وذلك في التعريف بنفسه ورحلته إلى الشرق والغرب. ومما قاله انه تعلم في جامعة الزيتونة بتونس حتى الثامنة عشرة من عمره، وأنه ارتحل بعد ذلك إلى مدينة فاس حيث جالس شيوخ العلماء الوافدين من الأندلس. ومن الطبيعي أن يكون لهذه المصادر تأثير في تشكيل ذهنه، فالعلوم العربية في ذلك العصر كانت علوماً موسوعية، وبواسطتها كان الطالب يستطيع أن يصل إلى أفق واسع من المعرفة الإنسانية. والواقع أن من يقرأ تراث ابن خلدون، وفي طليعته «المقدمة» يستنتج بما لا يقبل اللبس أن الروح المسيطرة عليه هي روح فلسفة التوحيد الإسلامية وليس الفلسفة الإغريقية أو أي فلسفة أخرى. والملفت للنظر أن ابن خلدون يحمل على ما وصل إليه من آراء الفلاسفة الإغريق؛ وآراء الفلاسفة المسلمين الذين تأثروا بهم أو تبنوا آراءهم وفي طليعتهم ابن رشد. صحيح أن ابن خلدون نقل وقائع الرومان والإغريق، ولكنه نقل هذه الوقائع عن أمثال ابن العميد، خاصة تلك الوقائع المتصلة بالفرس والرومان واليهود واليونان. وقد ذكر لويس عوض أن ابن خلدون أخذ أكثر ما أخذه من هذه المصادر غير العربية، وأنه كان يعرف اللاتينية أو الاسبانية التي كانت في زمانه مجرد لهجة دارجة، وأنه توصل بهذه اللغة أو تلك إلى الفكر الأوروبي ونقل عنه. الدكتور لويس يرجح أن يكون ابن خلدون قد عرف اللاتينية أولاً لأنه ذكر بعض أسماء مؤرخين أو علماء أو مفكرين أوروبيين، أو هو ذكر وقائع منسوبة إلى هؤلاء المفكرين الأوروبيين ولكن هذا الأمر وحده لا ينهض دليلاً. ذلك ان استقراء تربية كبار المفكرين العرب، ومنهم ابن خلدون، يدل على أن ابن خلدون عرف من عرف من المفكرين غير العرب من خلال الترجمات الكثيرة التي ذخرت بها اللغة العربية في عصر العباسيين. ثم انه عرف هؤلاء المفكرين الأوروبيين من خلال الكتابات الإسلامية ذاتها. وكانت السوق الثقافية العربية يومها تكفي المثقف العربي للاحاطة بمجمل المعارف الإنسانية. ولكن لويس عوض يرجح أن يكون ابن خلدون قد استعمل اللاتينية أو الاسبانية لسبب آخر، هو انه أُرسل في سفارة إلى بلاط بطرس الفاسي ملك اشبيلية. ومن المرجح جداً ان يكون قد استخدم الاسبانية أو اللاتينية اثناء سفارته. ولكن هذا الترجيح قد لا يكون في محله أبداً. ذلك انه ليس شرطاً في رجل يسفره العرب عنهم أن يعرف لغة أجنبية ليخاطب ملك اشبيلية بها. لقد كان يكفيه أن يستعين بمترجم، وكانت قصور أمراء المسلمين وقصور النصارى عامرة بمثل هؤلاء المترجمين. تجدر الإشارة في هذا المجال إلى ان ابن خلدون حرص حرصاً شديداً على أن يعرّفنا بأساتذته وبالعلوم التي قرأ. لكنه لم يذكر ما يرجح أنه استعان بأفكار أوروبية، ولم يقل انه كان يعرف اللاتينية. ومع ذلك، وعلى الرغم من وضوح كلام ابن خلدون، ثمة احتمال في أن يكون ابن خلدون قد استعان بتلك الأفكار واستخدم اللاتينية، أو الاسبانية، ثم يكون قد أخفى هذا الأمر. ولكن هذا الاحتمال لا يمكن أن يكون له أساس. فلو كان صحيحاً لكان أعداء ابن خلدون قد اهتدوا إليه وأذاعوه، خاصة وأنهم طاردوه كثيراً دون أن يقولوا لأي قريب ولا من بعيد ما يفيد انه كان يعرف لغة أجنبية، أو نقل شيئاً من مصادر أخرى غير عربية. وقال كل الذين تصدوا يومها بالرد على الدكتور لويس عوض، ان كل الباحثين، من عرب وأجانب، الذين درسوا المقدمة درساً معمقاً، لم يشيروا إلى ان ابن خلدون قد اعتمد فيما كتب على مصدر ثقافي آخر غير المصدر العربي. وفي طليعة هؤلاء الباحثين عالم الاجتماع الفرنسي «برتول» الذي كتب كتاباً خاصاً عن ابن خلدون ذكر فيه أن ابن خلدون لم يكن يعرف شيئاً عن اللغات الأجنبية، ولو كان يعرف لحدثنا هو نفسه عن ذلك. أما المصادر الاغريقية التي كان يمكن أن يعتمد عليها في حديثه عن المجتمع، وهي كتاب السلام لأرسطو، وكتاب الجمهورية لأفلاطون، فقد كان هذان الكتابان مفقودين في عصره! إن كل ذلك يقدم الدليل على أن صاحب «المقدمة» لم يكن له مصادر أوروبية أو أجنبية يعتمد عليها، ومع ذلك فإن من حق المرء أن يسأل: هل كانت السوق الثقافية العربية وحدها قادرة على تزويد ابن خلدون بمادة معرفية يمكنها أن تساعد في تكوينه وفي انتاج أو ابتداع أفكار ونظريات في مستوى ما انتجه أو ابتدعه ابن خلدون؟ والجواب هو حتماً بالايجاب. ذلك أن اللغة العربية يومها كانت كاللغة الانجليزية اليوم، أي اللغة الأولى في العالم المتمدن. وفي هذه اللغة كانت تصب كل المعارف والثقافات الوافدة من كل مكان خارجها. وكان أبناء هذه اللغة، أي العرب، قد استوعبوا كل هذه المعارف والثقافات الأجنبية، وأضافوا إليها من نوع ما فعله ابن خلدون. لم يكتب لويس عوض ما كتب عن ابن خلدون (وعن المعري وسواه) مدفوعاً بروح نقدية أو علمية بريئة خالصة لوجه النقد والعلم. كان يصدر عن روح كيدية، على الأرجح، القصد منها هو التهوين من أمر الرموز أو القمم التي يفخر بها العرب والمسلمون. كان لسان حاله هو التالي: «انتم تفخرون بالمعري والأفغاني وابن خلدون، ولكنكم لا تعرفون حقيقة أمرهم أو مصادرهم الأجنبية، تعالوا لأدلكم عليها»، ولكنه لم يفلح كما رأينا، وظلت القمم قمماً تطاول السحاب..