في 10 إبريل الجاري أعلنت دول مجلس التعاون الخليجي عن مبادرة تاريخية تهدف إلى مساعدة اليمنيين للخروج بوطنهم نحو برِّ الأمان ومعالجة أزماتهم التي استعصى عليهم إيجاد حلول وطنية ناجعة لها، وجاءت هذه المبادرة في ظرف تاريخي مصيري وحاسم فقدَ فيه اليمنيون- أو جُّلهم - الرؤية الصائبة، وكادوا أن يضيّعوا الاتجاه الصحيح للمسار الوطني اللاحق بعد أن بلغت الانقسامات والاستقطابات والتحشدات الداخلية ذروتها، وباتت تقسم الوطن والمجتمع إلى معسكرين متناحرين (موالين ومعارضين) للنظام السياسي، وأعيد رسم العلاقات الاجتماعية والسياسية على أساس من التباين والشقاق عوضاً عن التوافق والوفاق، وولج اليمن مرحلة كادت تتفكك فيه أواصر وحدته الجغرافية والسياسية إلى كيانات جهوية وطائفية وقبلية متناحرة، وظللت سماءه وربوعه سمومُ الفتن السياسية والتدخلات والاستقطابات الخارجية المباشرة، وتجلت بوضوح بشائرها الكبيرة المنذرة بشرور مستطيرة، وبدأت تتجاوز معايير الفوضى السياسية العامة التي عطلت مجمل مقومات الحياة الطبيعية للمجتمع والدولة نحو الاحتراب الداخلي. في مثل هذه الظروف العصيبة جاءت هذه المبادرة بمثابة طوق نجاة رمى به الأشقاء في دول مجلس التعاون الخليجي على أمل إنقاذ وطنٍ وشعبٍ كاد أن يغرق في مستنقع أزماته وصراعاته الداخلية ومآلاتها المجهولة، وتؤكد لليمنيين مجدداً أنه لا يمكنهم درء المخاطر المهددة لحاضرهم ومستقبل أجيالهم والحفاظ على وطنهم إلاّ من خلال الحوار والتمسك بوحدتهم الوطنية، وتضامنهم السياسي والاجتماعي، والحفاظ على الشرعية الدستورية.. فالمبادرة تعني العمل بشكل مشترك لإنقاذ اليمن مما يعانيه من تمزقات عميقة في نسيجه الوطني وتحريره من استمرار بقائه رهينة بيد قوى حاقدة تحرص على التجارة والمراباة بدماء أبنائه، وبأمنه واستقراره وجعله ساحة مفتوحة لتصفية حساباتها وثاراتها السياسية القديمة، ومزاولة نزعتها التدميرية وصراعاتها لتحقيق مشاريعها الخاصة. هذه المبادرة وإن كان البعض يفسرها من منظور الاحتياجات الأمنية لدول مجلس التعاون الخليجي، ويجد فيها شكلاً من أشكال الإجراءات الوقائية الاحتياطية المسبقة للحيلولة دون تمدد تداعيات الأوضاع اليمنية خارج حدودها الوطنية، واحتواء آثارها السلبية الخطيرة على دول الجوار قبل وقوعها.. هذا التفسير من المنظور الإستراتيجي قد يحمل جزءًا من الحقيقة لكننا نحن اليمنيين ما فتئنا ننظر إلى هذه المبادرة باعتبارها أحد أشكال التعبير الواقعي عن المسؤولية التاريخية والدينية والأخلاقية والقومية التي يضطلع بها قادة وشعوب دول مجلس التعاون الخليجي إزاء أشقائهم العرب وبالذات اليمنيين، فالمبادرة وإن جاءت استجابة لظرف تاريخي طارئ واستثنائي إلا أنها لم تأتِ من فراغ بل مثلت امتداداً متطوراً ومعاصراً للالتزامات والواجبات الرسمية والشعبية الخليجية التي تقتضيها وتحتمها حقائق الجوار ومصالح العيش المشترك، فقد سبقت المبادرة جهودٌ دبلوماسية مكثفة أسهمت إلى حد كبير في تمهيد الأرضية على الصعيدين القومي والدولي، هذه التحركات مهدت لرسم معالم طريق لتحرك خليجي مسنود بمواقف دولية داعمة ومؤيدة له باتجاه صياغة مبادرة تاريخية مستوفية لشروط وعوامل نجاحها الموضوعية، ومساعدة اليمنيين على الخروج من دائرة الخطر واحتمالات الاحتراب الداخلي ووضع حد للأزمات السياسية المزمنة التي يعانون منها. القيمة التأريخية لهذه المبادرة نابعة من كونها خليجية الهوية.. عربية الانتماء.. يمنية الفعل، وتقوم على رابطة عقائدية وانتماء ثقافي وحضاري وجغرافي واجتماعي يمني - خليجي مشترك، وتستند إلى القيم الروحية والأخلاقية والإنسانية كمنطلقات ثقافية استلهمت منها مضامين وأهداف هذه المبادرة الموجهة أساساً لنشر وتعزيز قابلية المجتمع اليمني فكراً وممارسة لثقافة الحوار والتسامح والاعتدال، وتقديم التنازلات المتبادلة والانتصار للوطن، وتقويض مساعي وثقافة الفوضى والإرهاب والتعصب والتطرف والانعزال التي ما برحت تفتّ في عضد المجتمع ووحدته. ولا تقتصر أهمية هذه المبادرة على كبح عملية الانزلاق بالوطن نحو الاحتراب الداخلي وتعطيل مفعول الألغام الموقوتة التي تَمكَّن البعض من زراعتها داخل النسيج الاجتماعي الوطني، ويترقب لحظة انفجارها بين الفينة والأخرى، فالمبادرة موجهة أيضا لتجفيف مختلف أسباب ومصادر الأخطار التي أحدقت بمصير اليمن وتهدد كيانه ووجوده وسلمه الاجتماعي، وأخذت بعين الاعتبار أن اليمن وطن مشترك لجميع أبنائه باختلاف انتماءاتهم، وتباين مواقفهم ومطالبهم وشعاراتهم، وتأكيدها في الوقت ذاته أن اليمن كان وسيظل حُرًّاً ومستقلاً في قراراته وخياراته ونظامه وشرعيته الدستورية والديمقراطية القائمة على احترام الحريات، والحقوق العامة بشقيْها السياسي والمدني وعدم انتقاصها. لقد وجد اليمنيون في المبادرة الخليجية تجسيداً واقعياً لمصالحهم ولكافة المبادئ والثوابت الوطنية التي أجمعوا عليها في دستورهم، وهي في الوقت ذاته تتجاوب مع كل القرارات والتوجهات الدولية الداعمة لحق الشعوب في التعبير الحُر عن خياراتها ومطالبها، والمؤكدة لاستقلالية اليمن وحريته وسيادته ووحدة شعبه وأرضه وخياراته السياسية، ومن شأن هذه المبادرة أن تحفظ لليمن مقومات وجوده في ظل دولة الحق والقانون والمؤسسات.. دولة الشرعية المسؤولة دستورياً وواقعياً عن حاضر ومستقبل وخيارات الشعب. ومن حيث آلياتها العملية تقوم المبادرة الخليجية على ضرورة إحياء مبدأ الحوار الوطني الشامل بين جميع فرقاء العملية السياسية اليمنية على أساس العيش والأمن المشترك الذي لا شرعية لأي حزب أو تيار سياسي يناقضه أو يتجاوزه، ومن وجهة نظر المبادرة فإن اليمنيين هم المعنيون قبل غيرهم بحياة وسلامة وإنجازات شعبهم، وهم المسؤولون في الحفاظ على وطنهم واحداً وموحداً، وقد حددت المبادرة الخطوط الإستراتيجية العامة لهذا الحوار التي تعكس في مضامينها حرص القيادة الخليجية على تفعيل دور المجتمع اليمني في الحفاظ على مقومات الوطن، وسد المنافذ أمام المغامرين بمستقبله ومكاسبه وأمنه ووحدة مجتمعه، ومن شأنها أيضاً أن تفسح المجال لنمط حوار نوعي تتكافأ فيه الفرص والضمانات الكافية أمام الجميع لتواصلهم وتفاعلهم مع بعضهم البعض على أساس من الاعتراف المتبادل، واحترام الآخر، وتميزه، واختلافاته، والقبول به كشريك في الحياة السياسية وفي عملية البناء الوطني، دونما محاولة لإلغائه أو إخضاعه للتبعية أو السيطرة عليه من قبل أي طرف حتى يظل هذا الحوار مستجيباً لمطالب جميع شرائح المجتمع وبالذات قطاع الشباب، وتبقى قضاياه ضمن حدود الواقع وليس الخيال، ويتجه بأهدافه صوب تحقيق الممكنات وليس فقدانها في سبيل البحث عن المستحيل، وردم الهوة الفاصلة بين الأطراف المختلفة وليس توسيعها وتعميقها. (يتبع)