قبل خمس سنوات تقريبا كتبت مقالا قلت فيه بأنني لن أسافر مستقبلا للصين (لأنني ببساطة رأيت مدناً صينية مصغرة ..أو تشينا تاون ..في كل دول العالم)! ولكن ؛ لأن الأغبياء وحدهم لا يغيرون آراءهم، زرت الصين مرتين بعد ذلك المقال.. المرة الأولى عام 2008 حين دخلت جنوب الصين عبر هونج كونج.. والثانية خلال هذا الشهر حيث زرت أهم المقاطعات وأكبر ثلاث مدن فيها: جوانزو وبكين وشنغاهاي... والرحلة الثانية لم تكن فقط أطول وأشمل؛ بل وأكثر عمقا (وتغلغلا) كوني دخلت بيوت الناس، وتناولت طعامهم، وركبت الدراجات، وزرت القرى، وتجولت في الحواري المنسية، وتجاوزت المولات التجارية إلى ورش الماركات المقلدة (ويمكنكم رؤية الصور على صفحتي في الفيس بوك)!! .. فالسياحة في نظري ثقافة واطلاع وفرصة للتعرف على الشعوب ذاتها.. أما حين تعزل نفسك داخل فندق فخم أو منتجع ضخم، أو تكتفي بزيارة المعالم المشهورة فقط، فتكون كمن ذهب لفرنسا دون أن يرى الفرنسيين!! ... ورغم أنني زرت 36 بلدا حتى الآن، إلا أن الصين كانت أمرا مختلفا بالفعل (لدرجة شعرت أنني انتقلت الى كوكب آخر).. فحتى الهند على ضخامتها وتنوعها لا تستحق إلا أن توصف ب"القارة الهندية"؛ أما الصين فتستحق أن توصف ب(الكوكب الصيني) بسبب تميزها واختلافها عن بقية العالم.. وأنا شخصيا على قناعة ليس فقط بتفرد "الكوكب الصيني" بل وبحتمية تفوقه على "كوكب البشر" خلال جيل واحد فقط (بما في ذلك القارة العجوز، وبلاد العم سام، وجزر سوني وتوشيبا)!! *** *** *** ... ولأنني أنوي كتابة ثلاث مقالات على الأقل عن هذه الرحلة .. ولأنني لا أعرف فعلا من أين أبدأ سأعود بكم إلى مطار جدة حيث أقلعت للصين أول رحلة مباشرة للخطوط السعودية في 26 مارس الماضي.. فما أن ركبت باص المطار حتى لفت انتباهي بسم الله ماشاء الله كثرة التجار الحضارم حولي .. وكان واضحا من كلامهم أنها ليست رحلتهم الأولى إلى مدينة جوانزو (المعروفة جيدا من قبل التجار ورجال الأعمال) ولكن سعادتهم كانت واضحة بتدشين أول رحلة مباشرة تعفيهم عناء الترانزيت وتغيير الرحلات في الدول الأخرى!! ... أما جوانزو ذاتها فتعرف غالبا باسم "كانتون"، وتعود علاقة التجار العرب بها الى أيام الأمويين والعباسيين وكانت تعرف لديهم باسم سينكلان.. وحتى ذلك الوقت كانت معروفة بازدهارها التجاري وعملها كميناء رئيسي وحب أهلها للترحال والهجرة (لدرجة حين نتحدث عن المطبخ الصيني نعني غالبا مطبخ كانتون).. وهي اليوم تلعب ذات الدور القديم حيث تستقبل العدد الأكبر من التجار ورجال الأعمال والشركات الأجنبية ورحلات الطيران الدولية (ناهيك عن معرضها التجاري الذي يعد الأكبر عالميا ويبدأ من 15 أبريل حتى 5 مايو من كل عام)!! ورغم أنني زرت جوانزو قبل 3 سنوات، بدت لي هذه المرة أكثر تطورا وازدهارا وبحبوحة في العيش (وهذا بالمناسبة حال جميع المدن في جنوب الصين).. وحين أفضيت بهذه الملاحظة لرجل أعمال كان يزورها منذ التسعينيات قال: لو زرت جوانزو قبل عشرة أعوام لرأيت معظم الناس يركبون الدراجات ويتنقلون بالعربات الخشبية.. فقاطعته قائلا: وهاهم اليوم يركبون المرسيدس والبي إم .. فابتسم وقال: ولعلمك ؛ كلها مصنوعة هنا، وحينها فقط عرفت سر الكتابة الصينية التي تبدو على مؤخرة السيارات الألمانية!! ... على أي حال؛ بما أنني لا أملك ناقة ولا جمل في عالم التجارة والمال، حرصت على مغادرة جوانزو قبل افتتاح معرضها التجاري متوجها الى بكين... إلى عاصمة الكوكب الصيني حيث السور العظيم، والمدينة المحرمة، وساحة تيامين التي دخلت التاريخ من أعنف أبوابه عام 1989... ... وحتى المقال القادم لا تنسوا مشاهدة صور الرحلة في الفيس بوك...