في هذه الأيام قد يضيع صوت العقل ضمن كمية الأصوات الزاعقة ، هذه الأصوات لها رجع الصدى ولها التهويل ، ولها محطات توسع وتكبر وتحفر في الهوة، ومن ثم نجد عقولا ببغاوية ، تردد بكل سرعة كل ما ينشر ، وكل ما تبثه تلك المحطات . تستلم المواقع الإلكترونية هذا الدفع الكمي ، لتبني عليها أمورا تهيّج المشاعر ، وكلّ يبكي على ليلاه والتي مرضت ولم تجد لها علاجا ، وكلّ يتهم الآخر ، وتكبر الأفواه بحيث لا نرى إلا أفواهاً تفتح وتغلق لترد أو تردد فتموت الليلات كمداً!. أمام كل هذه الأصوات يقف صوت العقل غريبا مبحوحا ، يشكو من آلام تقطّع حباله . يقف أمام رائحة الحريق الذي يتشعب أمام عينيه عاجزا ، هذا الخبز الذي أخذ خميرته على أعوام وأعوام، وقولب من جهة وكبر وتطور وبحث عن مغذين من كل مكان .. وجاء المغذون معتمَدين من الغرب ، يباركون الهدم والتفتيت.. صوت العقل ذاك الصوت الذي يحاول رتق ما ينشق ، ويعيد نسج ورفي ما تهرّأ ، لعل النسيج الوطني العربي يقوى ويعود رائعا كما كان قبل أول صرخة شيطان أولعت النار في الخليج العربي . يبدو العجز واضحاً ونحن نقلب الصفحات، ونؤشر على المستفيد ، ثم ننساه ، نعود للمربع الأول الذي طرح بقوة قبيل حرب الخليج الأولى ، هذا العدو الذي كان قديما ، استقدمناه ووضعناه ، والتهينا معه وبه عن العدو الأكبر لنا جميعا ، في سياسة الاحتواء الغربي ، كان الطرفان ألعوبة ، وكل طرف يغذيه طرف .. ثم كان ما كان من مساعدة العرب الخليجيين للعراق ، هبات أو على شكل ديون تستحق متى ما حركها صاحب الديّن . وقفت الحرب ، وجاء بديل عنها حرب الأخوة ، فكانت الحرب الخليجية الثانية ، وصرع العراق وهو يعود مجرجراً أذيال الانكسار الكبير . واستغلالًا للفرصة دخلت الجيوش المدربة في إيران من عراقيين ومعهم من دربهم فسميت الانتفاضة الشعبانية .. وغض النظر الشرطي الأمريكي ، فحسمت المروحيات العراقية الأمر لصالح الدولة. أعلن الشمال العراقي حكما ذاتيا ، ومن ثم تطور لدولة ، وذهبت الوفود الغربية والعربية وعادت له ومنه .. واعتذر الحكام العرب الخليجيون لإيران وعادت للساحة بمسمى(الجارة المسلمة) .. جاءت قاصمة الظهر الكبرى احتلال العراق ، وتنادى الجميع لأكل الكعكة العراقية ، فالتقفتها أمريكا ولا زالت تمزمزها منذ التاسع من نيسان / ابريل 2003. وتدور الرحى ، قامت تونس ولحقتها مصر ، ثم بدأت السلسلة تجر بعضها البعض . وتعاد سيرة العراق مع ليبيا ويتدخل الأجنبي بعد أن ضرب القذافي معارضيه . وسيناريو العراق يتكرر . في هذا الخضم ، هناك أسئلة يطرحها هذا العقل الذي لا يفتأ يتصدع يوما بعد يوم ، وهو يرى الأمور تتسرب من أيدي العرب ، وكيف غفل الحكام طويلا عن شعوبهم ، حتى شقت عن خدرها وكسرت خوفها ومضت، ومن ثم كان الفتق الكبير للتدخل الأجنبي .. وعادت كرة الاستعانة بالأجنبي مرة أخرى ، هذه المرة الشعوب او من زعم أنه يمثلها ، ليبحث عن (قيصر جديد) يقصف ويهدم ويذبح ويشرد . وتضيع الموارد وتكبر المطالبات بحيث ترتهن إرادة الدولة مستقبلا كلية لمن ملك السماء. فيكون الأمر من دكتاتور الداخل إلى استعمار جديد ، وتذهب المقدرات هباء. لعل من حق الناس العاديين جدا وهم الذين تخنقت أصواتهم أن يتساءلوا لماذا لا يمكن أن يملك الإنسان العربي التحكم بقدره ؟ ولماذا لا يستطيع العربي أن يحمي ذاته ووطنه عبر رضا شعبه والقنوات الحقيقية للحكم؟! لا فوضى ولا استبداد ، ولا عبث أجنبي لا من جار ولا من بعيد .. والأمر ليس صعباً ولا مستحيلًا ، وهو العودة لقيم الإنسان الحقيقية ، في الحياة الكريمة بكل معانيها .. وهذا ما نصبو إليه وليس الفوضى الخلاقة التي وعد بها (بوش وكوندليزا رايس ). تُرى أيّ خلق تنتجه لنا الفوضى غير التدمير وارتهان الأوطان؟!