الأسرع يكسب طاف المتسول الكثير من الأماكن والطرقات .. كان الناس في ذلك اليوم كرماء معه وأكثر شفقة به من الأيام التي مضت وهو يجر قدميه بصعوبة ويسند جسده بعصا غليظة يتوكأ عليها وهو يهتز وينتفض بقوة حتى تظن أنه سيسقط على الأرض كلما مد إليك يده المرتعشة طالبا حسنة لله ومضيفا أنه يعاني من الكثير من الأمراض والفقر وضعف الحال الذي تعكسه ثيابه الرثة وملامح وجهه التي يغلفها بهالة من الانكسار والبؤس .. كان يحرص أن يختار الأماكن التي يذهب إليها لمواصلة الشحاذة بعناية ويملك حاسة جيدة في اختيار من يمد لهم يده ليخرج من جيوبهم بشيء مما يحملونه في محافظهم من نقود.. صحيح أن حاسته لا تصدق معه في كل الأحيان لكنه في ذلك اليوم نجح في أن يستخدم حاسته بشكل جيد ربما لأنه أجاد تصنع البؤس بصورة بارعة استطاع من خلالها أن يستدر عطف كلا من الذين مد يده لهم .. وبعد أن أعياه التعب والتجوال بين الأماكن العامة والشوارع جلس على رصيف أحد المراكز التجارية وأخذ يعد النقود التي جمعها في ذلك اليوم الجيد بالنسبة له وحرص قبل أن يبدأ في العد أن يرص النقود بشكل مرتب حتى يسهل عليه عدها.. وبينما هو منهمك في العد اقترب منه أحد اللصوص وفي لمح البصر خطف من يده النقود وانطلق مسرعا ولم يترك له إلا قطعة صغيرة من العملة انفصلت من إحدى الأوراق النقدية التي هرب بها اللص. انتفض المتسول من مكانه مخلفا رعشة جسده وضعفه وعصاه الغليظة على الرصيف وهو ينطلق يرمح خلف اللص محاولا اللحاق به .. في مطاردة سيكسبها الأسرع؟ وبعدين كان لا يتوقف عن القيام والجلوس في حالة من النزق والملل ويحاول أن يكسر ذلك بين الحين والآخر بالمشي في ممرات ذلك المستشفى الكبير الذي يكتظ بالمراجعين .. أكثر من مرة وجد كتفه تصطدم بأحد المراجعين أو إحدى الممرضات اللائي لا يتوقفن عن الحركة بين ردهات وعيادات الأطباء وفي كل مرة يعتذر لمن يصدم بهم عن غير قصد .. وكلما مر بعض الوقت عاد إلى موظف شركة التأمين التي يحمل بطاقتها وهو يسأله بلهفة (هاه جات الموافقة من الشركة أم لا).. وفي كل مرة تأتي الإجابة من الموظف بالنفي.. حيث يعود إلى المقعد الموضوع أمام الموظف ويجلس وعلامات السخط واضحة على محياه ولا يكاد يستوي على المقعد حتى يبدأ في هز قدميه .. ثم يقوم ويجلس عدة مرات وهو ينظر إلى شباك موظف شركة التأمين بحنق .. وحتى ينفس عن صدره ذلك الحنق يعود يذرع ممرات المستشفى جيئة وذهابا دون هدف ثم يعود لموظف شركة التأمين ليعيد عليه نفس السؤال (هاه جات الموافقة) فيرد عليه الموظف لم تأت بعد. انفجر صارخا في الموظف.. وبعدين .. ( أش هذا هو التأمين عمل عشان تذلونا ولا إيه؟ ).. وخرج من المستشفى غاضبا .. وهو يردد بصوت عال وبعدين وبعدين؟ براد بالنعناع دخل المقهى المكتظ بالزبائن رفع صوته بالتحية على جميع الموجودين لكن يبدو أن صوته لم يصل إلا للقريبين من المكان الذي اختاره للجلوس في ذلك المقهى حيث كان الجميع مشدودين لمتابعة مباراة حامية في كرة القدم بين فريقين أوروبيين ضمن مسابقة بطولة القارة.. لم يهتم بعدم رد تحيته وهو يتخذ من احدى الزوايا مكانا للجلوس بعيدا عن صخب التلفيزيونات التي كانت تملأ المقهى. رمى بشماغه جانبا على أقرب مسند ومدد رجليه وصاح بأعلى صوته ينادي على العامل في المقهى ليأتي له ببراد شاهي بالنعناع .. ولكن صوته ضاع وسط أصوات التلفزيونات التي كانت صاخبة إلى درجة لا تطاق.. عاد ينادي بصوت أعلى من السابق (ياقهوجي براد شاهي بالنعناع) ولكن صوته لم يغادر مكانه الذي كان فيه ولم يأت القهوجي لتلبية طلبه .. صاح في الجالسين أمامه طالبا منهم أن يخفضوا صوت التلفزيون الذي أمامهم .. فردوا عليه بلا اكتراث وهل التلفزيون الذي نتفرج منه المباراة هو الوحيد الذي صوته عاليا .. كل التلفزيونات في المقهى أصواتها مرتفعة؟ صاح مرة أخرى مناديا على القهوجي براد شاهي (يا....) ولكن القهوجي لم يجبه شمر عن ساعده وذهب إلى مكان القهوجي غاضبا وصاح فيه صوتي (انبح) وأنا أطلب منك أن تحضر لي براد شاهي بالنعناع فهل ( أصابكم الطرش)؟.. فرد القهوجي كيف أسمع صوتك وسط هذا الحراج .. عاد إلى مكانه غاضبا وعندما جاء له القهوجي ببراد الشاهي بالنعناع .. صاح في وجهه موبخا الآن بعد إيه .. وخطف شماغه بغضب قائلا للقهوجي أشرب أنت (شاهيك) وخرج مسرعا وهو يلعن المقاهي والعاملين فيها ودوري بطولة كأس أوروبا!!