يواجه البعض اضطرابًا عاطفيًا في المزاج وفي التفكير يؤدي إلى الوقوع في أخطاء فادحة. والمقصود بالاضطراب العاطفي هو ارتباك في الفهم يُعطي استجابة غير دقيقة بسبب استحضار مثير متوهّم (قد لايكون له أساس من الصحة)، وينتج عنه تشتت في الذهن وفي الانفعالات. وهو صنف لايصل إلى درجة الاضطراب الوجداني ثنائيْ القطب الذي يتطلب علاجًا بالعقاقير. ومن خلال تعاملنا اليومي مع الناس ربما نلاحظ وجود ردّات فعل غير طبيعية تصدر من بعض الأشخاص على أحداث طبيعية؛ فقد تجتهد في ملاطفة شخص ومؤانسته فيصدّ عنك بجفاء وينفر منك مباشرة؛ وقد تبادر بتقديم هدية إلى شخص عزيز عليك، فتتفاجأ برفضه الهدية وربما يُقدّم لومًا لك على ذلك ؛ وقد تفعل خيرًا بترشيح شخص عاطل لعمل معين فيرفض ترشيحك ويتّهمك بأنك تريد الإضرار به.. وهكذا نجد نمطًا مشابهًا من التصرّفات التي يقوم بها البعض ضدّ من يُسدون لهم خيرًا. وقد نجد في سلوك هؤلاء تصرفًا غير أخلاقي ينمّ عن سوء النية ويدلّ على رذيلة خلقية تتمثل في نكران الجميل، ولكن الأمر لايمكن النظر إليه بهذه البساطة بالمسارعة إلى الحكم الأخلاقي؛ بل إن الأمر يتعلق بأن أولئك الأشخاص قاموا بردّات الفعل السلبية تلك نتيجة لما هو موجود في رؤيتهم الخاصة للعالم الذي جعلهم يرون ما لانرى، ويعرفون ما لانعرف. كيف؟ دعوني أشرح الأمر على النحو التالي: إن الشخص الذي تُلاطفه وفجأة ينفر منك، قد فهم الملاطفة على أنها محاولة منك لاستدراجه للإيقاع به في كمين، فحاول حماية نفسه بالصدّ والنفور. وهذه الرؤية التي جعلته يفهم الملاطفة على أنها استدراج هي رؤية مرسومة في شاشة عقله نتيجة خبرات مرّت به في الطفولة، لعل أبسطها أن أمه أو والده أو شقيقه ضحك في وجهه ذات مرّة فاقترب منه وأحسّ بالأمان وفجأة وجد لطمة على خدّة دون مبرر لها، وقد يكون مرّ بخبرة أفظع من هذه. ولهذا، فإن تلك الخبرات القديمة إن زالت من الذاكرة شكلًا، لكنها تبقى مضمونًا في وعي المرء. وبناء على ذلك، يتصرّف في الحياة - وفقًا لتلك الخبرة - التي تجعله يخشى من تكرر سلوك ضدّه. والأمر نفسه مع الشخص العزيز الذي تُقدّم له هدية فيرفضها، لأن ردّة فعله تعتمد على الشك في النوايا، متوقعًا أن هذه الهدية إنما هي مُقدّمة لطلب أو عربون لعمل سيأتي لاحقًا. ولو تأمّلنا حياة هذا الشخص، لوجدنا أنه ضحيّة لتجارب سابقة تعرّض فيها للخداع، وتلوّنت شاشة عقله بالشك الذي عمّمه بشكل نمطي على الجميع. والشخص العاطل الذي يرفض ترشيحه للوظيفة، هو ضحيّة خليط من الشك والخوف؛ فلديه شك في أن الشخص لم يفعل هذا الفعل (أي الترشيح) إلا وهو يُريد مصلحة معينة لنفسه، وينطلق في هذا من فلسفة سلبية مفادها أن الناس لايعملون شيئًا في الحياة دون مقابل. ولهذا، فإنه يخشى من الوقوع في خطر فيما لو استجاب بشكل طبيعي؛ ويظل صوت في داخله يُحرّضه على الرفض. إن التصرّفات السابقة تنمّ عن خوف من المجهول، وهو خوف مترسّب في أعماق الشخص منذ الطفولة، ولايمكن تبديد هذا الخوف بسهولة. ومن الطبيعي أن تجد بعض الزوجات صعوبة كبيرة في إقناع زوجها باقتناء جوال كاميرا مثلا، أو بالسماح لها بالعمل في مكان مختلط، إذا كان الزوج من هذا النمط المشبع بالمخاوف. ويرافق هذا النمط من الشخصيات المصابة بمخاوف من الطفولة، شخصيات أخرى تشترك معها في الخوف الذي يغلّب جانب التشاؤم في الحياة، فلايستطيع الشخص الاستمتاع بشيء، ولا الارتياح مع شيء مهما كان بسبب وجود مخاوف من عدم جدوى ما يفعله. فتجد الفتاة تتذمر بشدة وتبكي حظها العاثر لأنها أمضت وقتًا طويلا في مساعدة أمها لتربية إخوتها الذين كبروا وتوفّقوا في حياتهم وتركوها؛ وتجد الموظف يندب حياته التي أمضاها في هذه الوظيفة يعمل ويكدح ويخدم غيره ثم لايجد التقدير الذي يتمنّاه. كما قد تجد أشخاصًا لاهمّ لهم إلا الولولة والشكوى من الحياة حتى إذا لم يجدوا شيئًا تذمّروا من الهواء الطلق! ومن المتوقّع أن تجد هؤلاء يفهمون التصرّفات التي تمرّ بهم بطريقة قائمة على الشك والارتياب؛ فلو أكرمتهم ظنّوا ذلك تقربًا إليهم وشراء لذممهم، ولو استمعت إليهم ونفّذت رغباتهم لظنّوا ذلك جبنًا منك..إلخ. وليس مستغربًا من الزوجة التي قدّم لها زوجها هدية، أنها راحت تشك أنه مافعل ذلك إلا لتغطية جريمة أو مصيبة عملها من وراء ظهرها. على أن ما يسير في حياتنا الشخصية، يمكن أن ينسحب على تفسيراتنا للقضايا السياسية والثقافية المختلفة. فهناك من يقرأ الأشياء الظاهرة قراءة تقوم على وجود مؤامرة تحاك في الخفاء، ويجد مسوّغات يستدعيها من ذاكرة ملوثة بالمخاوف الطفولية تجعله يركن إلى شكوكه فيما يجري حوله. على أنه لايمكن استبعاد وجود مصالح وراء بعض التصرفات، فالشخص المتوازن يكون فطنًا يُعامل كل قضية على حدة دون أن يقع في مزلق التعميم النمطي الخاطئ.