بمثل ما يملك الإنسان آليات دفاع جسدية تجعل عينه ترمش - بشكل غير إرادي - إذا اقترب منها أي جسم، فإن النفس تمتلك كذلك آليات دفاع ذاتية لمواجهة الخطر، تُسمّى بالميكانيزمات الدفاعية. وهي عند الباحثين في علم النفس أنواع منها الذهانية والعصابية والتي تعدّ نوعًا من المرض. وتتناول زاوية اليوم، شكلًا آخر من الحيل النفسية التي تستخدمها الذات للوقاية من الخطر، وذلك بتوقّع السوء قبل وقوعه، وترجيح احتمال حصول الشر، مع رغبة دفينة بعدم تحقق ذلك. ويظهر أن هذا التوقّع السلبي يجعل الشخصية تعيش مع الحدث السلبي وكأنه حاصل (قبل حصوله)، حتّى إذا ماوقع تكون على ألفة معه. وكأنّ أفق الشخصية يضع احتمالاً للفشل خوفًا منه؛ وهذا يحدث مع الطلاب الذين يتوقّعون رسوبهم في بعض المواد أو حصولهم على نتائج ضعيفة، لكي لايُصابوا بالصدمة حينما تظهر النتائج على غير ما يريدون؛ وكأنهم بهذا التوقع السلبي يقدّمون وقاء نفسيًا يُهيئهم لتقبّل الوضع. وإذا كان هذا السلوك فرديًا، فإنه يمكن أن يُصيب الجماعة، فينتشر في المجتمع اعتقاد بوضع توقّعات سلبية للحياة. وهناك تفسيرات تربط هذا التصرّف بالخوف من الحسد، فتجد الشخص يدّعي على نفسه وعلى أسرته بالمرض والفقر لكي لايحسده أقرباؤه مثلا، كما تُخبئ المرأة أطفالها أو تُخفي أمر زواجها أو تكتم خبر وظيفتها، مدّعية الحرمان بهدف كسب الشفقة، وتبديد غبطة الناس لها. وفي هذا التصرّف نوع من الوقاية المصطنعة في البداية والتي ماتلبث أن تُصبح حقيقة حينما يعيش المرء الحالة التي يتوقّعها ويتورّط بمشاعره ولايستطيع الفكاك من التصوّرات التي وضعها لنفسه. وفي هذا السياق، يمكن أن نفهم الحالة النفسية التي تعرضها قصيدة نزار قباني "أسألك الرحيلا"، والتي غنّتها نجاة الصغيرة بصوتها الحزين المعبّر. إنها قصيدة مصاغة على لسان فتاة عاشقة، تريد من محبوبها أن يفارقها: لنفترق قليلا.. لخيرِ هذا الحُبِّ يا حبيبي وخيرنا.. لنفترق قليلا لأنني أريدُ أن تزيدَ في محبتي أريدُ أن تكرهني قليلا بحقِّ ما لدينا.. من ذِكَرى غاليةٍ كانت على كِلَينا.. بحقِّ حُبٍّ رائعٍ.. ما زالَ منقوشاً على فمينا ما زالَ محفوراً على يدينا.. بحقِّ ما كتبتَهُ.. إليَّ من رسائلِ.. ووجهُكَ المزروعُ مثلَ وردةٍ في داخلي.. وحبكَ الباقي على شَعري على أناملي بحقِّ ذكرياتنا وحزننا الجميلِ وابتسامنا وحبنا الذي غدا أكبرَ من كلامنا أكبرَ من شفاهنا.. بحقِّ أحلى قصةِ للحبِّ في حياتنا أسألكَ الرحيلا إن المبررات التي سيقت لطلب الفراق تتضمن مغالطات عقلية، لأنها تحوي مايدعو للبقاء، فكل الذكريات أخذت صفة الدوام لأنها منقوشة ومحفورة ومكتوبة ومزروعة وليست مجرد شيء عابر. ثم تأتي مبررات أخرى قياسية في المقطع التالي: لنفترق أحبابا.. فالطيرُ في كلِّ موسمٍ.. تفارقُ الهضابا.. والشمسُ يا حبيبي.. تكونُ أحلى عندما تحاولُ الغيابا كُن في حياتي الشكَّ والعذابا كُن مرَّةً أسطورةً.. كُن مرةً سرابا.. وكُن سؤالاً في فمي.. لا يعرفُ الجوابا من أجلِ حبٍّ رائعٍ .. يسكنُ منّا القلبَ والأهدابا وكي أكونَ دائماً جميلةً .. وكي تكونَ أكثر اقترابا أسألكَ الذهابا.. فالقياس المأخوذ من خارج دائرة العلاقة الإنسانية لا يجتمع مع الحب في شيء، وإنما هو مجلوب بهدف إقامة قياس تماثلي مخادع. فمثلا، فإن فراق الطيور للهضاب في كل موسم هو سلوك يخصّ الطيور التي لها سمات تختلف عن البشر، وارتباطها بالهضاب هو ارتباط بين الذات والمكان وليس ارتباطًا بين ذاتين تحبّان بعضهما بعضًا، ويمكنهما أن تهاجرا معًا وتعودا معًا. والمثال الثاني الذي يوضّح أن الشمس كل يوم تكون أحلى في وقت الغروب لأنها بذلك تفارق المكان، لاعلاقة له بفراق شخصين حتى لو كانت الشمس تفارق المكان، لأن الشمس تعود مرة أخرى وتكون أحلى وهي تهمّ بالشروق. ولهذا، فقد أعيت المحبوبة الحيلة في طلب الفراق، مصرّة على أن يتحقق لها الفراق وهي في قمة العشق: لنفترق.. ونحنُ عاشقان.. لنفترق برغمِ كلِّ الحبِّ والحنان فمن خلالِ الدمعِ يا حبيبي.. أريدُ أن تراني ومن خلالِ النارِ والدُخانِ .. أريدُ أن تراني.. لنحترق.. لنبكِ يا حبيبي فقد نسينا نعمةَ البكاءِ من زمانِ وفي هذا المقطع تلميح بالضرر المحتمل من الفراق وهو البكاء والاحتراق، ورغم الخشية من هذا الضرر إلا أن هناك رغبة في استدعائه بشكل غير منطقي وهو خشية نسيان البكاء! ثم يأتي تبرير جديد للفراق وهو خشية الملل مع إيراد قياس للحالة الراهنة بحالات خارجية على النحو التالي: لنفترق.. كي لا يصيرَ حبُّنا اعتيادا وشوقنا رمادا.. وتذبلَ الأزهارُ في الأواني.. لكنني.. لكنني.. أخافُ من عاطفتي أخافُ من شعوري أخافُ أن نسأمَ من أشواقنا أخاف من وِصالنا.. أخافُ من عناقنا.. والقياس بذبول الأزهار في الأواني بسبب طول المدة قياس غير واقعي لأن الحب مادة حية تزداد حيويّة وبهاء مع ديمومة الحياة، وكلما زاد تكرارها والاعتياد عليها أدّت إلى الإدمان عليها وعدم القدرة على الفكاك منها. والواقع الذي تخفيه كلمات القصيدة هو رفض هذه الفتاة العاشقة للفراق، وتأتي دعوتها له من خشيتها من تحققه: كُن مطمئنَّ النفسِ يا صغيري فلم يزَل حُبُّكَ ملء العينِ والضمير ولم أزل مأخوذةً بحبكَ الكبير ولم أزل أحلمُ أن تكونَ لي.. يا فارسي أنتَ ويا أميري. ولأن هناك خوفاً متراكماً من الفراق، فقد بادرت أن تطلب منه أن يفارقها، حتى إذا تحقق ذلك عمليًا، أعادت السبب إلى نفسها بأنها هي صاحبة الطلب. وبذلك تحمي نفسها من الإرهاق العاطفي وتحمي كرامتها من الشعور بالإهانة والذل. وليس أدل على ذلك ممّا ختمت به القصيدة قولها: فباسمِ حبٍّ رائعٍ أزهرَ كالربيعِ في أعماقنا.. أضاءَ مثلَ الشمسِ في أحداقنا وباسم أحلى قصةٍ للحبِّ في زماننا أسألك الرحيلا.. حتى يظلَّ حبنا جميلا.. حتى يكون عمرُهُ طويلا.. أسألكَ الرحيلا..