قبل بضعة أيام ، وفي كنيسة صغيرة في فلوريدا الأميركية ، قام القس واين ساب بإحراق نسخة من القرآن الكريم تحت إشراف تيري جونز الذي أثار قبل سبعة أشهر موجة من الاستياء والانتقادات بشأن خطته لإحراق كومة من نسخ القرآن في ذكرى هجمات الحادي عشر من أيلول/سبتمبر. وقال هذا المعتوه إن ما قام به كان "محاكمة" للقرآن الكريم، معتبرا المصحف الشريف انه "مذنب" عن عدة جرائم وانه "تم إعدامه"! على أن سلوك هذا القس الأمريكي يعكس نموذجا للعقلية المريضة والمختلة التي لا تعرف إلا الحقد والكراهية والتعصب المقيت، بل هو إنسان نكرة وجاهل وساذج وعنصري وشوفيني وصفته ابنته بأنه مجنون ، ناهيك عن سعيه للشهرة والمال بأية وسيلة. عُرف عنه كرهه للإسلام ويكفي أن نعلم بأن لديه كتابا يكشف عن حقيقته وسمه ب "الإسلام من الشيطان". طبعا هذا فعل ناقص وسلوك مرفوض، قُصد منه الإساءة للمسلمين في أعز مقدساتهم. هناك من يرى بأن ثمة حملة مخططة للهجوم على الإسلام، بدليل ما تشهده بعض المدن الكبيرة في الولاياتالمتحدة من حملة دعائية معادية للإسلام وفق وسائل إعلام أميركية، ساعية لترسيخ مفهوم الاسلاموفوبيا والترويج له من خلال حافلات المواصلات العامة غير أن ما يؤسف له، انه في الوقت الذي تتجه فيه أصوات الاعتدال في العالم إلى تلاقح الأفكار والتفاهم واحترام خصوصية الأديان ومعتنقيها ، تخرج علينا أصوات نشاز متطرفة لا تلبث أن ترفض مبدأ التعايش مكرسة حقدها على الإنسانية، وذلك بازدراء الأديان وبرفض الآخر. وأقل ما يمكن أن يقال عنها بأنها خطوة استفزازية تعصبية هدفها إثارة الكراهية والتفرقة والتمييز بين المسلمين وغير المسلمين وبثها في وقت يلوح في أجواء التوتر والعنف ، من أطراف غير عابئة بتهور تصرفاتها الرعناء. على أن المثير للاستغراب أن يأتي هذا الفعل من أشخاص لهم علاقة بالأديان، ومن المفترض أنهم يدركون ماذا يعني الدين لدى معتنقيه ، وبالتالي لا يوجد تفسير في أن يقوم ويتجرأ قس مسيحي يفترض انه منتمٍ لديانة، بحرق كتاب مقدس لمئات الملايين من المسلمين!. بلا شك مثل هذه الأحداث وما يرافقها وأعقبها من إفرازات، ستساهم في تهشيم جسد التواصل الإنساني، وهي خطوة قد تفتح الباب لخطوات لاحقة، وتُذكي الصراع والخلاف بين الإسلام والغرب ، لتكرس ما قد سبق أن طرح منذ عقدين من نظريات حول الصراع وانتصار القيم الليبرالية، كصراع الحضارات لصموئيل هنتنغتون، ونهاية التاريخ لفرانسيس فوكوياما . على أن هناك من يرى بأن ثمة حملة مخططة للهجوم على الإسلام، بدليل ما تشهده بعض المدن الكبيرة في الولاياتالمتحدة من حملة دعائية معادية للإسلام وفق وسائل إعلام أميركية، ساعية لترسيخ مفهوم الاسلاموفوبيا والترويج له من خلال حافلات المواصلات العامة. ولعل حضور هذه الأصوات المتطرفة بقوة في الساحة سيؤدي بطبيعة الحال إلى تعزيز التطرف وتفاقم التعصب ، مما يعيق أي محاولات لردم الهوة وبالتالي هدم مبادئ الانفتاح والتواصل ، ولذا فالعلاقة بين الأديان ومسألة التوتر الديني تحظيان في وقتنا المعاصر باهتمام ومتابعة لا سيما الإسلام والمسيحية، باعتبارهما الأكثر تأثيرا وانتشارا في العالم ، وإن كان هناك من يرى بأن ثمة محاولات مستميتة لدفع الطرفين إلى مواجهة وقودها في ذلك سلسلة الأحداث التي توالت منذ أحداث 11 سبتمبر ومرورا بالعمليات الإرهابية في المنطقة وصولا إلى غزو العراق. بيد أن المعضلة فعلاً باتت بحاجة إلى إعادة نظر جادة وقراءة جديدة لتحديد معالم إطار المفاهيم لمعنى الحرية والحق في إبداء الرأي، لأنه ليس من المقبول عقلا ولا منطقا أن يُقدم أشخاص نكرة على إيقاع حكومات وشعوب في فخ مواجهات وصراعات، من منطلق أن الدستور يتكفل حرية التعبير بغض النظر عن تداعياته السلبية على الأمن والاستقرار، فهل الحرية يجب أن تكون مطلقة أم هي نسبية، أم يفترض تقييدها في مسائل معينة؟ وفي المقابل يدفعنا ذلك إلى أن نتساءل عن ردة الفعل وماذا ستكون عليه الصورة في ما لو ، على سبيل المثال ، قام احد المسلمين بإنكاره للهولوكوست ، أو قام آخر بإحراق الإنجيل أو التوراة رغم رفضنا القاطع لهكذا تصرفات، إلا أن المراد هنا هو وضع علامات استفهام حول ردود الفعل الغربية حيالها ومحاولة فهمها، فهل ستعتبرها أنها تندرج ضمن مساحة حرية التعبير، أم أنهم سيطالبون عندئذ بحرية مقيدة وبضوابط طالما أتى الأمر على دياناتهم وقناعاتهم؟! ولكي نمضي إلى المزيد من الشفافية، نقول إن رسالة القس جونز المتطرفة لا تختلف عن رسالة ابن لادن المتطرفة فالأديان تدعو للتسامح والتعايش في حين أن سلوكيات هؤلاء تدخل في دائرة التطرف والتطرف المقابل في غياب ملحوظ لأصوات الاعتدال من الطرفين في الساحة. ورغم أن قضية الصراع الحضاري كانت وما زالت مطروحة في الساحة منذ الحروب الصليبية،التي لم تكن عسكرية بقدر ما كانت مواجهة حضارية طويلة وشاقة، إلا أن هناك إصراراً من قبل بعض الأطراف على بقاء هذا العالم عرضة لصراعات عرقية ودينية. ورغم أن الإعلام الغربي مازال يعزف على هذا الوتر لاسيما ما بعد أحداث11 سبتمبر-أيلول، وكذلك أسامة بن لادن الذي لا زال يصورها على أنها حرب بين الإسلام والغرب، إلا أن دور المستنيرين في العالمين الإسلامي والغربي، لابد أن ينزع إلى المطالبة والحث على التقارب والحوار والتواصل الحضاري الذي بات ضروريا ومُلحا، وبات يتطلب صياغة أفكار وآليات عبر لقاءات دائمة ومبادرات متواصلة؛ فالوسطية في الإسلام لا تقر بالطروحات العدائية مع الغرب، بل هي مع التساكن والحوار، وقد نادت به منذ ما يربو على ألف عام، والحضارة الغربية كمضامين تدعو الآن إلى ذات المفاهيم في عالم بات إلى الالتحام والتمازج هو أقرب. ومع إيماننا بأن تلك الأحداث لن تؤثر في مكانة القرآن الكريم الذي تعهد الله بحمايته وحفظه إلى أن تقوم الساعة ، إلا أنه من الأهمية بمكان عدم الانجراف وراء هذه الأساليب الاستفزازية ، بل الانطلاق من سماحة الإسلام لمد جسور الحوار والتفاهم بين أتباع الأديان والثقافات، ومع ذلك لابد من تضافر الجهود دوليا للتوصل إلى قانون دولي يجرم الإساءة للأديان والمقدسات، وجعلها ملزمة لا سيما وأن مجلس حقوق الإنسان للأمم المتحدة، أصدر قبل أيام قرارا بمكافحة التعصب الديني، والمأمول أن يبحث آليات محددة في دورته القادمة من اجل تضمينها القوانين المحلية ، هذا إن أراد فعلًا محاربة أصوات التطرف..!