قبل بضع سنين شهد العالم نهضة صناعية من نوع مختلف . طاقة طالما كانت علامة للدمار والتدمير وهي الطاقة النووية. هذا النوع من الطاقة الذي كانت دول العالم الأول تضع عراقيل كثيرة في وجه دول العالم الثالث من اجل عدم تطويرها خوفاً من استخدامها في إنتاج أسلحة دمار شامل. تواجه اليوم احد أكثر الدول تقدماً في العالم صناعياً وتطوراً في مجال الطاقة النووية وهي اليابان كارثة نووية حقيقية ، ستعاني كثيراً منها استراتيجياً على صعيدين اثنين، الأول تأثر سمعتها في مجال الصناعات النووية وهي التي تسوق منذ فترة ليست بقليلة تقنيتها الذرية التي تفتخر بها كثيراً، فهذا الأرخبيل المتناثر يضم 55 مفاعلا مما يعطي هذه الدولة زخماً لدى الدول الراغبة في الدخول في هذا المجال بالاعتماد على " المرجعية " اليابانية ، خصوصاً في منطقة الشرق الأوسط حيث سعت طوكيو لاستقطاب عدد من الصفقات إلا أنها منيت بهزيمة ساحقة عندما فازت جارتها كوريا الجنوبية بعقد بناء وتشغيل مفاعلين نوويين لصالح دولة الإمارات العربية المتحدة. مما تسبب بخيبة أمل لدى القادة اليابانيين . وبالتالي فإن من شأن الكارثة النووية التي لحقت بالمفاعلات النووية اليابانية في "فوكوشيما" أن تهز عرش اليابان في الصناعة النووية. الدكتور مجيد كاظمي أستاذ الهندسة يخالف وجهة النظر هذه ، زميل معهد بروكينجز الدكتور نثان هيلتمان الذي استبعد في حديثه ل " الرياض": أن تكون تلك الفكرة موجودة ، مبرراً ذلك بقوله " يدرك معظم المراقبين حول العالم أن ما حدث كان عبارة عن كارثة طبيعية كبرى، فما حدث هو زلزال مدمر مصحوب بأمواج عاتية بصورة غير معهودة. وعليه فإن من الواضح أن السبب الأساسي للحادث كان طبيعياً ومرده إلى الطبيعة وليس لفعل الإنسان وذلك خلافاً للأخطاء البشرية، كما حدث في "شيرنوبيل" وجزيرة "ثري مايل آيلاند". ومع ذلك سوف يكون هنالك لا محالة طرح لبعض التساؤلات حول تصميم محطة "فيوكوشيما" وما إذا كان ذلك التصميم على درجة كافية من الدقة والإتقان على نحو يفضي إلى الصمود . كما أن ثمة تساؤلات أيضاً حول عدم القدرة على الاستجابة الفورية من قبل اليابان الأمر الذي ربما أدى في حالة حدوثه إلى منع وقوع بعض المشاكل. لكن البروفيسور مجيد كاظمي استاذ الهندسة النووية في معهد ماساشوستس للتكنولوجيا يؤكد ل" الرياض" أن تجاوب السلطات كان فورياً من إخلاء المناطق المحيطة إلى استجلاب المولدات الاحتياطية... وأضاف: لا اعتقد بأي حال أن تصرفات السلطات اليابانية كانت تشوبه أي شائبة... إن الضغط القوي على هيكل المحطات كان عاتياً وهائلاً ، وقد تم بالفعل إيقاف المفاعلات النووية بصورة مأمونة بعد الزلزال ، وعلى الميدان كانت مولدات الديزل تتطلب تشغيل المضخات التي تعمل على تدوير المياه والتي تعطلت من جراء تأثيرات تسونامي. ولكن عند طرح تساؤلات حول وجود قصور في التصميمات الخاصة بالمفاعلات بحيث لا تحتمل الهزات القوية ، كما أشارت إلى ذلك وثائق " ويكيليكس". أقر الدكتور هيلتمان بذلك قائلاً : من الواضح أنه من المهم جداً لأي دولة أن تكون الضوابط التنظيمية والصناعية ذات نظام يتسم بالوضوح والشفافية والصرامة والإحكام في آن معاً لضمان التأكد من اتباع أقصى درجات السلامة في كل الأوقات. وهذا لم يكن هو المتبع دائماً في اليابان. بالإضافة إلى ما تقدم لقد أصبح من الواضح أيضاً أنه إذا كان بمقدور اليابان التجاوب بصورة أسرع مما تم على أرض الواقع بعد توقف العمل في محطة "فوكوشيما" ربما كان بإمكانهم أن يحولوا دون تفاقم المشكلة واستفحالها على النحو الذي حدث. كلا الموضوعين أعلاه اكتسب طابعاً مؤسسياً وكان من الممكن بل وينبغي أن يتم التطرق إليه ليس في اليابان فحسب، وإنما أيضاً في أي بلد تضطلع بتشغيل محطات طاقة نووية. شيلا سميث كبير الباحثين في مركز الدراسات اليابانية في مجلس العلاقات الخارجية ويضيف هيلتمان ل" الرياض " انه بالإمكان إنشاء جميع المفاعلات حول العالم بحيث تحتمل وتصمد امام زلزال بقوة 9.3 درجات على مقياس ريختر، ولكن من الواضح ان ذلك ربما يعد ضرباً من دفع التكاليف غير الضرورية ، خصوصاً إذا كان الموقع النووي منشأ في مكان ذي مخاطر منخفضة لحدوث هزات أرضية ، وهذه المرحلة في التحقق من مدى السلامة وتحليل المخاطر هي حالة ومرحلة كلاسيكية من اجل تخفيض درجة المخاطر وضبط وترشيد التكلفة. ويتساءل الباحث في بروكينجز الدكتور هيلتمان قائلاً كيف يمكن اتخاذ القرار ؟ فبالإمكان بناء مفاعل للصمود أمام زلازل بقوة 6 أو 7 درجات ؟ ماهو مستوى المخاطرة لاحتمال وقوع زلزال بقوة 8.5 درجات والتي تعتبر "منخفضة للغاية " لدفع تكلفة إضافية لأجلها؟ هذه الأسئلة ليس من السهل الإجابة عليها وتستوجب مشاركة جميع المختصين والمعنيين وأصحاب المصلحة في نقاش صريح وشفاف حول كيفية تحقيق التوازن المطلوب بين المخاطر والتكاليف. وكنا نتمنى ونحبذ لو أن اليابان شيدت محطاتها بطريقة مختلفة وأنها أجرت نقاشاً على غرار ما ورد ذكره أعلاه وعند هذه النقطة ينبغي لنا استخلاص الدروس المستفادة من التجربة والاستئناس بتلك الدروس في أي إنشاءات مستقبلية لأي محطات نووية. كبير الباحثين في المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية الدكتور فرانشيسكو جودمينت على صعيد الأمان النووي واتخاذ خطوات احترازية يشير كبير الباحثين في المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية فرانشيسكو جودمينت فيقول ل " الرياض": تظل المجمعات النووية خطرة في مناطق الزلازل حتى لو كانت بدون تسونامي حيث يظل فقدان الكهرباء بسبب التبريد خطراً ماحقاً وبالتالي فإن باكستان وشمال إيران وحتى المنطقة التابعة لفرنسا في البحر المتوسط تقع جميعها في دائرة الخطر. ويضيف اعتقد ان هناك إمكانية كبيرة لتعرض المحطات النووية للخطورة – ويمكن في هذا الصدد التفكير في هجمات بالصواريخ او ارتطام طائرة وتحطمها بما في ذلك ما يقع في مستودعات تخزين النفايات . ولذا فإن أي منطقة مرشحة لأن تكون مسرحاً للحرب بما فيها مناطق الشرق الأوسط وهي على الأغلب كذلك .. تمثل مشكلة إضافية. ويتفق مع ذلك بشكل جزئي البروفيسور مجيد كاظمي أستاذ الهندسة النووية في معهد ماساشوستس للتكنولوجيا الذي قال ل " الرياض" :إن على الدول سواء اليابان او غيرها التي توجد بها مناطق من المحتمل أن تعاني من الكارثتين الطبيعيتين (الزلازل وتسونامي) ينبغي لها مراجعة متطلبات تحديد مواقع المحطات لديها. كما شدد الدكتور هيلتمان زميل معهد بروكينجز حول ما حدث محطة "فوكوشيما" بأنه سوف يجعل عددا من الدول تعكف على إجراء نوع من المراجعة للتأكد من كفاية الجوانب المتعلقة بالسلامة ومدى وفائها بالمطلوب في محطاتها النووية. ويضيف من الوارد ان تعمد بعض الدول بصورة أو أخرى إلى زيادة درجة الصرامة في الاشتراطات والمتطلبات المتعلقة بالسلامة . ومع هذا فإن من المحتمل ألا تتطلب معظم الدول إجراء تعديلات جوهرية ومكلفة لتجهيزاتها ومرافقها الحالية. مشيراً إلى أن المنشآت الجديدة قد تكون أكثر عرضة لمراعاة المزيد من الصرامة في متطلبات السلامة. الدكتور نثان هيلتمان زميل معهد بروكينجز على الصعيد الاقتصادي وهو العصب الرئيسي للحياة في اليابان فالتأثيرات والتداعيات ستكون خطيرة وسيكون الاقتصاد الياباني على المحك ، وهو الذي تعرض لهزة أفقدته المركز الثاني عالمياً كأكبر اقتصاد في العالم لصالح الصين . لذا ستسعى طوكيو خلال الفترة المقبلة لإعطاء زخمٍ كبير ودعمٍ ذاتي لصناعاتها النووية من اجل الخروج من هذا المأزق، خصوصاً ان عددا من الدول في الخليج العربي والشرق الأوسط كانت قد أجرت محادثات معها بهذا الشأن. حيث أكد دبلوماسي ياباني ل" الرياض" في وقت سابق أن الحكومة اليابانية وشركات الطاقة اليابانية ومصنعي المحطات، بدأوا في بناء برنامج شامل للتعاون النووي ، من أجل التعاون مع دول مثل المملكة العربية السعودية. لكن هل ستقوم اليابان بتقليص قدرتها النووية بعدما أعلنت ان ستستغني عن المحطة المنكوبة. أم ستشدد إجراءاتها الاحترازية من اجل الصمود في وجه الكوارث الطبيعية ومنها الزلازل حيث تتعرض اليابان لهزات كثيرة تتفاوت قوتها طوال السنة. والجواب من وجهة نظر تحليلية أن اليابان لن تستطيع الاستغناء عن الطاقة النووية على المدى البعيد والقريب لأنها وببساطة تعتمد عليها في توليد 29 % من طاقتها. وبالتالي ستواجه اليابان إشكالات اقتصادية جدية في المستقبل القريب والبعيد ، تؤكد ذلك كبيرة الباحثين في مركز الدراسات اليابانية في مجلس العلاقات الخارجية شيلا سميث التي قالت في حديث ل" الرياض": بأن التداعيات في اليابان ستكون خطيرة على الاقتصاد الياباني من جراء تأثير الأزمة النووية التي تتعدى الاثار المدمرة للزلزال وأمواج تسونامي ما لم يتم التوصل إلى حل لتلك الأزمة على وجه السرعة ، وليس أدل على ذلك مما شهده السوق من توترات خلال الايام الماضية نتيجة التخوف من انتشار الاشعاعات النووية. جودمينت : التسونامي والزلازل ليست الخطر الوحيد على المفاعلات وتضيف متسائلة: كيف ستتمكن اليابان من توليد الطاقة خلال الأشهر والسنوات المقبلة بعدما لحق الدمار بما نسبته 25% من القدرات اليابانية لتوليد الطاقة بما فيها المحطات النووية والتقليدية ، لذا من الاهمية النظر إلى لإعادة تلك القدرات الى وضعها ، بل وربما إعادة النظر في موضوع اعتماد اليابان على الطاقة النووية لما لذلك من تأثير بالغ على الاداء الكلي للاقتصاد الياباني، وعلى أقل تقدير يلزم اعادة شبكة توليد الطاقة في الجزء الشرقي من اليابان إلى سابق وضعها ومع هذا فقد يكون من الأحرى أن يتم إنشاء شبكة جديدة تربط بين الجزأين الشرقي والغربي من البلاد. إن النظر إلى الاستغناء التدريجي لليابان عن الطاقة النووية سيعني ان اليابان ستتجه بشكل قوي إلى الوقود الاحفوري المتمثل بالنفط ومصادر الطاقة في باطن الارض الامر الذي سيشكل ضغطاً كبيراً على سوق النفط المتأزم سعرياً ، وسيجعل من اليابان مستهلكاً رئيسياً في السوق النفطية .