لا أعتقد أن هناك دولة من دول العالم اليوم سواء أكانت دولة غنية أم فقيرة، صغيرة أم كبيرة، شرقية أم غربية، ديموقراطية كانت أم دكتاتورية، إلا وتعتبر التعليم الأساسي جزءاً لا يتجزأ من مسؤوليات الدولة، ومرفقاً مهماً من مرافقها، وعنصرا مهماً ومحورياً في خططها لتنمية البلاد وتحقيق نهضتها المنشودة. لقد اختفت تلك المفاهيم التي تعتبر التعليم اختياراً فردياً يبحث عنه من تيسرت أحواله وتشعبت اهتماماته، وأصبح لزاماً على الدولة أن توفر فرص التعليم للجميع: الفقير قبل الغني، والبعيد قبل القريب، والأنثى قبل الذكر، وأصبح على الجميع أن يُلحقوا أبناءهم وبناتهم بالمدارس، وإلا تعرضوا لعقوبة ما في القانون العام للدولة. صحيح أن السياسات التعليمية تختلف من دولة إلى أخرى، فالبعض منها تتمتع بالمرونة، فتمنح الأقليات فرصة لتعليم أبنائها وبناتها مواد معينة تعكس ثقافتها وقيمها، إلا أن الجميع يتفق على أهمية صياغة نظام تعليمي عام للدولة وفق سياسات تنبثق من القيم والثقافة المحلية، وتعكس رؤية المؤسسات والأفراد لكيفية صياغة عقل ووجدان ومهارات الأجيال.. جيلاً بعد جيل. إذن لم يعد التعليم الأساسي مسألة اختيارية، ومن تخلف نظامه التعليمي لأي سبب من الأسباب أصبح مستقبل البلد في مهب الريح، سواء أكان ذلك المستقبل مرتبطا بنهضة الوطن علمياً واقتصاديا وثقافياً، أو كان مرتبطاً بمستقبل الأفراد في الانتاج والتفوق والنبوغ والمشاركة الفاعلة والإيجابية في الحياة العامة. من هذا المنطلق تجاوزت المجتمعات الحديثة النقاش حول أهمية التعليم، وما إذا كان لزاماً على الدولة أن تتحمل النفقات الباهظة في إنشاء المدارس وتجهيزها، أو في إعداد المعلمين وتوظيفهم، أو في تصميم المناهج وتطويرها، وانتقل النقاش إلى تفاصيل التفاصيل مثل: ما هو التعليم المناسب؟ وما هي السياسات العامة التي ينبغي اتخاذها لتطوير التعليم؟ وما هي المناهج والخطط الضرورية لقيام تعليم يحقق أهداف الدولة والمجتمع وطموحاتهما الحضارية؟ إذا تجاوزنا هذه المقدمة الضرورية وحاولنا أن ننتقل من الحديث النظري عن أهمية التعليم، إلى أسئلة فلسفية حول مصطلحيْ «التربية» و»التعليم»، وتجاوزنا أيضاً الاختلاف الظاهر بين هذين المصطلحين في سياق ثقافتنا العربية ومن خلال المدلول اللغوي للكلمتين، بينما نجد أن مصطلح «Education» واحد في اللغة الإنجليزية وله مدلول متماسك يشمل الجانب التربوي: النفسي والسلوكي، والجانب التعليمي: المعرفي والإدراكي، وطرحنا السؤال المركزي الأول الذي يستنهض النقاش حول القضايا الفلسفية التربوية وهو: ما الغاية من التعليم؟ هذا سؤال فلسفي عميق يتم تسطيحه أحياناً بنقاش فضفاض نظري حول الأهداف السلوكية والإدراكية وغير ذلك، وأحياناً أخرى يتم تجاهله لأن المنظومة التربوية لم تتعود على طرح الأسئلة الفلسفية، ولم تتعود على فتح الحوار لمناقشتها ولمحاولة الوصول إلى توافق ما حول الإجابات المحتملة لها. بالتأكيد هناك من حاول الإجابة عن سؤال كهذا في كتب ودراسات، ولكن سأحاول في بقية هذا المقال ومقالات مقبلة تناول إشارات حول بعض الإجابات المحتملة التي قد يتبناها التربويون في هذا العالم الفسيح: هناك من يتبنى مفهوم أن العملية التعليمية مرتبطة بمقدار ما يحصّله الطالب من قيم ومفاهيم وعلوم ومعارف وقواعد وحقائق علمية يستطيع أن يستفيد منها خلال حياته العامة أو حياته العملية، وبالتالي تمكين الطالب من اكتساب القدرات والمهارات التي يستطيع من خلالها أن يفرق بين الحق والباطل، وبين الخير والشر، وبين النافع والضار. هذا الفريق يرى أن المعرفة موجودة لدى العلماء، ولدى المختصين والخبراء الذين يدونونها في الكتاب المدرسي أو يبرمجون عقول المعلمين لحفظها ونقلها بعد ذلك إلى الطلاب، وبالتالي نستطيع من خلال النظام التعليمي الصارم أن نتأكد من أن المعلومات التي تحتويها الكتب الدراسية هي معلومات موثقة وصحيحة، وأن ما تكتنزه عقول المعلمين هي أيضاً معلومات صحيحة وحديثة وموثوقة، وأن وسائل نقل المعلومات إلى عقول التلاميذ تتم بحيادية، ودون اجتهاد شخصي في تفسيرها وصياغتها. ومن خلال هذه الصيغة نستطيع أن نوجد النظام التعليمي المتميز الذي يخدم أهداف وتوجهات السياسة التعليمية المتفق عليها.. (يتبع)