في حالة وجد شفافة ومضنية إلى درجة التفتت ، وفي زمن معاناة موجعة مع استرجاع وتذكّر تفاصيل اللحظة - والعمر لحظة مسروقة غنية وثرية بكل الأشياء الجميلة - وفي وقفة مع شريط الزمن الذي مضى بكل المباهج ، والإبهارات ، والثراء الوجداني الذي صاغ ولوّن طابعه الحياتي ، بكل هذا صرخ الشاعر بحنجرة " المجنون " قيس بن الملوح .. وقرّر بلغة حاسمة تشي بحب المكان ، والالتصاق بالأرض كنسغ في دواخلنا . "قد يهون العمر إلا ساعةً وتهون الأرض إلا موضعا " الجغرافيا على امتداداتها ، وفضائها السديمي الذي لايطاول ، وكل مافيها ، وبها ، وماعليها ، وما تختزنه ، وتعطيه من فرح ، وجمال ، وممارسات عشق ووله ، ووجد معجون بالكلمة ، والفكر ، والتلاحم ، والانصهار ، كلها لاتعوّض عن مكان ، ربما كان وادياً ، أو شِعباً ، أو غدير ماء ، أو ظلاً تحت شجرة عتيقة ، أو صخرة مشرفة على فضاء المكان ، ودروبه ، ومسالكه . ربما يكون هذا المكان ، أو ذاك الموضع بما حفر في الذاكرة ، والوجدان ، والنفس من تفاصيل مبهجة ، ومفرحة ، يعادل في معناه ، وإيحاءاته ، والتجارب الأولى فيه ، والحوارات التى حدثت في لحظته إن حوارات الشفاه ، أو لغة الأيدي ، أو تواصل العيون ، يعادل كل جغرافيا الكرة الأرضية . إذن .. يرتبط الإنسان بالمكان ، بالموضع ، بالفضاء المحدود جداً لأنه يتصل بالروح ، والفكر ، والوجدان ، ولأنه صاغ التنشئة ، والتجارب ، وعمّق الولاء للأرض . والانتماء للتراب ، واكتساب المعارف الأولية من خلال لحظاته ، وعلاقته ، وما كان من تأثيراته في تشكيل المخزون الواعي ، والانفتاح على العالم الخارجي المحيط . ومن ثم يبدأ الإنسان في توسيع أفقه المعرفي ، وزيادة مخزونه الفكري في الحياة عبر اطلالاته على مساحات أخرى ، وعلاقات متشابكة ، ومتناقضة ، شرسة أحياناً ، وحميمة أحايين كثيرة في رحلته الحياتية . غير أن " الموضع " يبقى دائماً هاجساً ، وحنيناً . يرتبط الكائن البشري بالحي في قريته ، ثم ينتقل إلى الفضاء الاجتماعي والجغرافي فيها ، ثم يتصل بالمدينة بصخبها ، وتعقيدات الحياة في عوالمها ، وعلاقاتها المتشابكة والمرهقة والموجعة ، وينتمي في البداية إلى الأسرة الضيقة والمحدودة ، ثم يكبر فينتمي إلى المكوّن الأشمل ويتماهى مع القبيلة ، ثم ينضج عقلاً ، وفكراً ، ووعياً ، وإدراكاً ثقافياً فيكون انتماؤه وولاؤه للوطن ، كل الوطن ، وبهذا يكون قد انصهر في الكيان السياسي ، والجغرافي ، وعمّق تأصيل الهوية ، والاحتفاء بها كسلوك وممارسة. إلى أين من هنا ..؟ نرغب في القول إن الوطن حالة وجود ، ومحصلة وعي ، ونتاج تكوين في مختلف المضامين والأدوات ، وبالتأكيد ليس حقيبة سفر ، أو فندقاً من نوع " خمسة نجوم " ، أو حالة عابرة في الزمن تذهب ولا تأتي ، وبالتالي فإن التماهي معه ومع منجزه الحضاري والفكري والتنموي والتاريخي واجب مقدس ، ومقدس إلى درجة لاتناقش ، ولا تقبل الجدل . الوطن انتماء ، وهوية ، ووجود . (وتهون الأرض إلا " وطنا "..)