لا يمكن إهمال الترجمة الفرنسية لديوان أبو العلاء المعرّي «لزوم ما لا يلزم» التي صدرت حديثاً لدى دار «أكت سود» الباريسية (سلسلة «سندباد»). فعلاوة على المهارة الكبيرة الملاحظة في عملية الترجمة التي خاضها هوا هوي فوونغ وباتريك مغربني، وتشكّل إنجازاً شعرياً بذاته، يمنحنا المترجمان، إن في مقدّمتهما لهذا الديوان أو في الدراسات القصيرة الثلاث التي تقع في نهايته، معطياتٍ نقدية جديدة ومثيرة تسهّل عملية قراءته وتساهم في فهم فكر صاحبه. في بداية المقدّمة، يبيّن المترجمان أولاً أن هذا الديوان الذي عمل المعرّي عليه فترة ثمانية وأربعين عاماً، يوماً تلو يوم، ليس إنجاز حياةٍ فحسب، بل هو الحياة نفسها بعد أن تم توضيحها. إنه عبور الساعات وسقوط السنوات، يأخذان شكلاً وكثافة. فمشروع المعرّي السرّي و«المجنون» هو افتداء الزمن نفسه، مشروع الشاعر «صاحب القوافي المريبة»، وفيه – المشروع - تتشكل المقاطع اللفظية «المتلعثمة»، من منطلق أن الحياة الحقيقية ليست هنا، ولا هي في مكانٍ آخر ما عدا، ربما، التفوّه الثابت بالكلام الشعري. ويعكس هذا المشروع، في نظر المترجمين، طموح صاحبه الذي لا حد له إن على المستوى الشكلي أو الميتافيزيقي. فصعوبة القافية الواحدة ذات الرويين والوزن الواحد، داخل القصيدة الكلاسيكية العربية، لم تكف المعرّي فاستخدم، بدلاً من قافيةٍ بسيطة، قافيةً غنية مستهلكاً، قصيدة بعد أخرى، كل الإشراكات الممكنة بين حروف الأبجدية وعلامات الترقيم، ونوّع قدر المستطاع البحور المستخدمة في نظمه، فتحوّلت شبكة أبياته فضاء ذهنياً أو بنية لا شائبة فيها، قادرة على افتداء شوائب الحياة. ولكن كان يمكن هذه الكفاءة أن تكون بلا قيمة لولا أن قصائد الشاعر لا تستجيب لطموحٍ آخر هو فضح نقاط ضعف الكائن البشري وإسقاط صرح الخلق المُزعزَع أصلاً. وفعلاً، يخطّ المعرّي في هذا الديوان صورةً قاتمة للحياة فيستحضر في شكلٍ مهووس عذاباتها وفحشها. وأكثر من ذلك، نجده يتطلّب من ذاته ما يتخطّى القدرة البشرية، أي قهر الجسد والنفس، وشحذ الروح حتى القلق وإذلال الذات حتى الانحلال. بجملة واحدة، وضع المعرّي نصب عينيه هدفاً واحداً هو بلوغ الولاية بأي ثمن، وإن فشل في ذلك كل يوم. وهذا ما يدفع المترجمين إلى اعتبار مشروع «اللزوميات» مخالفاً للصورة المكوّنة حول صاحبها كزنديقٍ، لبُعده الأخلاقي الكبير. فداخل هذا الديوان، ثمة صرخة قلقٍ طويلة يعبرها ضحكٌ عنيفٌ وتهكّمٌ ولعنات ضد الذات والآخرين، صرخةٌ تستحضر باستمرار الصوت الكلي الغائب. في هذا السياق، يتوقف المترجمان عند القرن الذي عاش فيه الشاعر للإشارة إلى أنه شكّل إحدى المراحل الأكثر اضطراباً في التاريخ العربي. ففي تلك الفترة (القرن العاشر ميلادياً)، كان الحكم العباسي فقد مركزيته وقوته وتقطّع إلى ممالك تتنافس فيما بينها، وكان الخليفة قد تحوّل إلى ألعوبة في يد القوة العسكرية الطاغية. وأدّى الانحطاط السياسي والحروب والثورات إلى نتائج اقتصادية كارثية تجلّت في استيلاء نخبةٍ من النافذين على الثروات وتخبّط الجزء الأكبر من الناس في بؤسٍ أسوَد. في مثل هذه الظروف، لا يتعجّب المترجمان من مسألة انفلات الأخلاق الاجتماعية وتفشّي المؤامرات والدسائس والخيانات والفساد والمحسوبية وخصوصاً العنف. لكن ذلك لا يُفسّر بالنسبة إليهما عبقرية المعرّي بل يمنح فقط الإطار المؤلم لعويله ويؤكّد له سوداوية العالم. وبغية ولوج فضاء «اللزوميات»، يدعونا المترجمان أولاً إلى تأمَّل فضاء الضرير، الذي هو فضاء المعرّي منذ سن الرابعة، وهو انفتاحٌ فغورٌ بلا اسم ولا نهاية، يبقى كل شيءٍ فيه غائباً ومصدر تهديد في الوقت ذاته. وعلى عكس الفضاء المرئي الذي نتوجّه فيه بلا خوف بفضل رؤيتنا الحواجز التي قد تعترض سبيلنا، يفرض الفضاء غير المرئي حقلاً افتراضياً (virtuel) وغير مادي لا ينتظمه أي خط أو حد، وهو بالتالي فراغٌ يعجّ بالحركات، بدلاً من الكائنات، وباللمسات العابرة، بدلاً من الأشكال. وهذا ما يفسّر، في نظرهما، طغيان صورتين على «اللزوميات»: العتمة الأولى للظلام التي تفرّغ المشهد من أي مادة ثابتة وتتداخل فيها الأجساد وتتكاثر إلى ما لا نهاية، والسجن المدوخ للإنسان في فضاءاتٍ مغلقة متتالية. وفعلاً، تسحرنا في عالم المعرّي الشعري مسألة تشبّع الفضاء بالأجساد وطريقة تراكب هذه الأجساد المعقّدة والكثيفة. ففي إحدى القصائد نشاهد البشرية كرعاع يجتاحون العالم، وفي قصيدةٍ أخرى تمتلئ المقابر بجثثٍ متتالية أو يتم تصوير جلبةٍ مضحكة مصدرها عِظام وأقدام وجماجم. ولكن لا نقع البتة على كائنات لها فرديتها، كما يتجلى ذلك في عدم تسمية الأشخاص الذين يعبرون أبيات هذا الديوان إلا لغاياتٍ عدائية، كالداعية السيئ أو الحاكم الظالِم أو الحبيبة الشهوانية أو الزائر اللحوم. والطبيعة القاسية لهذه البشرية هي التي دفعت المعرّي إلى الانعزال عن العالم بثرثرته ونياته السيئة وغروره وإغراءاته، وإلى صقل حسّه النقدي كي يتجنّب المعتقدات المختلقة والأوهام، وأخيراً إلى شحذ جسده وتقليص مادته حتى الشفافية كي يتحوّل وعاء هزيلاً لفكرٍ صافٍ. ومع أنه حلم بجسدٍ مجرّد، لكنه ردّ فشل بلوغه هذا الجسد إلى استحالة الانعزال كلياً عن العالم الحاضر، أولاً بمادته الثقيلة والمرهِقة، عالمٌ أصبح آلةً جهنّمية تخضع فقط لقوانين «الفساد» (المادّي والأخلاقي). ويعتبر المترجمان أن هاجس تصوير وطأة العالم بطرقٍ كثيرة ومختلفة يعكس ألم المعري النفسي أمام تقصير المادة. فالنفس غير المادّية في جوهرها تتألّم، في نظره، من ثقل الجسد الذي تعيش فيه، أو لعلها لا تتألم إلا من ذلك. وهذا ما يقودنا إلى صورة السجن الذي يمضي الإنسان فيه كل حياته وتتعدّد أبعاده إلى ما لا نهاية، كسجن الجسد وسجن العمى وسجن الجدران التي نعيش داخلها، وسجن الزمن وتكراره، وسجن اللحد الذي ننتهي فيه...، وهذا ما يقودنا إلى موضوع الليل أيضاً الحاضر بقوة في «اللزوميات» ولكن ليس كملجأ دافئ لحبيبَين، بل كحجابٍ مُذنِبٍ بطياتٍ متشابكة تعلق فيها البشرية جمعاء، وكسوادٍ كثيفٍ ولزج يختنق الشاعر في عتمته الراكدة. وقد نظن أن حالة هذا الأخير كإنسانٍ ضرير هي التي تتحكّم في رؤيته السلبية للعالم. لكنه شخصياً ردّ على ذلك بتذكيره أنه كمّ من مرّة يهزأ الضرير ذو الذهن الوقّاد ممَن يعتبرون أنفسهم مبصرين وهم في الحقيقة في ظلامٍ دامس. ولا يُهمل المترجمان الجانب المتقطّع والمجزّأ للديوان. فصحيحٌ أن ثمّة وحدة تجمع أحياناً القصائد القصيرة، ولكن في غالب الأحيان نقفز من موضوعٍ إلى آخر داخل بيتٍ شعري واحد. وبالتالي، ما يُشكّل مركز الثقل في القصيدة هو وحدة النظم، وخصوصاً جاذبية القافية الغنية التي تنعكس عناصرها الصوتية داخل البيت الشعري، وتنتشر فيه، فتنظّم الإيقاع والمعنى في مجمل القصيدة. ويتجلى مبدأ التوالد السمعي هذا في استخدام المعرّي الثابت للتجنيس الذي يقوم على اللجوء داخل كل قصيدة، إلى كلماتٍ ذات اشتقاقٍ واحدٍ أو مشابه. وفي هذا السياق، تقابل «اللزوميات» سجن الوجود الذي لا نهاية له بالشبكات الفرضية لتنويعاتها، شبكات تتفكك بدورها إلى تنويعات سمعية وإلى خلايا متشعّبة تعبر كل بيتٍ شعري. وعلى خلاف سديم الأشياء العبثي، يبدو هذا العمل الشعري منظّماً وفقاً لرؤيةٍ واحدة واضحة ومشبعة بالمعنى، الأمر الذي يحوّله حقولاً سمعية تتمتع بألوانٍ خاصة ويرتبط فيها كل بيت شعري أو تعبير بمقطعٍ آخر من الديوان، كما لو أن المعرّي كان يحمل في ذاكرته الخارقة تفاصيل هذا العمل خلال إنجازه. وفي النهاية، يشير المترجمان إلى أن «اللزوميات» تشكّل في طريقةٍ متعمّدة نصّاً مغلقاً يتكاثر فيه، بمتعة، الغموض والالتباسات. فليس من الممكن لكل بيتٍ شعري أن يُقرأ على أساس الأبيات الأخرى، ولكن أيضاً يحمل كل دال معنى مزدوجاً وأحياناً متناقضاً. وعلى خلاف أبرز محللي هذا الديوان، وعلى رأسهم طه حسين، الذين ردّوا مسألة غموضه إلى مبدأ التقيّة، أي إخفاء الآراء الدينية للإفلات من الاضطهاد، يرى المترجمان أن التضارب والتجزيء وتعدد المعاني فيه يمليها المضمون المتناقض لفكر المعرّي نفسه وليس الخوف من المضايقة. وأبرز دليل على ذلك، في نظرهما، هو أن المقاطع أو الأبيات التي تتسم بشحنة هرطقية هي تلك التي تبدو أقل التباساً وغموضاً.