"شرق النساء بعيون مصمم الأزياء الفرنسي كريستيان لاكروا" عنوان معرض افتُتح مؤخراً في متحف "كي برانلي" في باريس ويضمّ مجموعة استثنائية مكوّنة من أزياء وحلي لنساء من مشرق العالم العربي. أقدم القطع المعروضة ثوب لطفلة عاشت في القرن الثالث عشر الميلادي وقد عُثر عليه في مغارة في وادي قاديشا في شمال لبنان وقد جيء به من "المتحف الوطني" في بيروت. باستثناء هذه التحفة النادرة فإن الأزياء المعروضة أُنجزت خلال مرحلة زمنية تمتدّ بين عام 1880 والمرحلة الراهنة، وهي تعكس التقاليد الفنية لمناطق جغرافية متنوّعة تشمل شمال سوريا وفلسطين والأردن وصحراء سيناء. أشرف على اختيار المعروضات المصمّم الفرنسي كريستيان لاكروا، وهو أحد الذين طبعوا بإبداعهم مسيرة الأزياء العالمية منذ مرحلة الثمانينيات من القرن الماضي. في التمهيد للكتاب الذي صدر بمناسبة المعرض، كتب لاكروا: "لديّ شعور بالانتماء إلى ما هو أبعد من الصور النمطيّة والإيكزوتيّة. مصدرنا جميعاً النساء وبالتحديد نساء الشرق. لو لم نكن نأتي من ذاك المصدر لكان هو جاء إلينا". هذا الافتتان بالشرق ليس بجديد عند المبدعين الفرنسيين والأوروبيين. منذ القرن التاسع عشر، التفت هؤلاء إلى الفنون والحضارات الشرقية، ومن أشهرهم الفنان هنري ماتيس الذي استوحى العديد من أعماله من الفنون الإسلامية، وكان قد تعرّف عليها في المعارض التي خصصت لها في باريس وفي متحف برلين عند مطلع القرن العشرين، وكذلك أثناء زيارته للمغرب 1912 عام، وشكّلت تلك الزيارة محطة فاصلة في مسيرته الإبداعية. استوحى كريستيان لاكروا بدوره من الشرق، وهو معروف بتعلّقه بالفنون الشعبية ومنها الفنون التي عرفتها الدول المتوسطية. ولد لاكروا عام 1951 في مدينة آرل في الجنوب الفرنسي في كنف أسرة مثقّفة. ولقد اطّلع باكراً على تلك الفنون وعرفها عن كثب. في هذا الإطار، يشير المصمّم إلى جده الذي كان بحّاراً أمضى سنوات طويلة في المتوسط وكان يرسل إليه البطاقات الملوّنة وفيها صور لنساء يرتدين الأزياء التقليدية. وهي أزياء ينظر إليها لاكروا بصفتها تجسيداً لحضارة عريقة موغلة في القدم وتناقض الصورة النمطيّة للمرأة العربية والتي تهيمن اليوم في الغرب. إنها أزياء من صنع النساء وتعتمد على الأقمشة المطرّزة حيث تطالعنا الألوان الحارة والأشكال الهندسية الصافية المصاغة بأسلوب جريء وحرّ يعكس حساسية النساء ومشاعرهنّ الخاصة، كما يعكس قيماً جمالية وروحية مميزة. الأزياء والحلي التي نتعرف عليها في المعرض متنوّعة وتنتمي بغالبيتها إلى متحف "كي برانلي" ومجموعة وداد قعوار. ومن المعروف عن هذه السيدة أنها تجمع، منذ أكثر من خمسين عاماً، الأزياء والحلي الفلسطينية، حتى أنها لُقِّبت بأمّ اللباس الفلسطيني. في البداية، كان حبّها للتطريز والأقمشة الفنية وأزياء أهل الريف والبدو من العوامل التي دفعتها إلى اقتناء هذا التراث. ثم جاء الاحتلال الإسرائيلي وما رافقه من تهجير لآلاف العائلات الفلسطينية. ولقد أدى انتقال النساء للعيش في المخيمات إلى ضياع الكثير من التقاليد الفنية العريقة المتعلقة بفنّ التطريز وحياكة الأقمشة. ومن أجل الحفاظ على هذا التراث بشكل علمي، دعمت وداد قعوار مشروعها بالأبحاث والدراسات ساعية إلى معرفة تاريخ الأزياء التي تقوم بجمعها والإطار الاجتماعي الذي تكوّنت فيه، وهذا ما جعلها حافظة للتراث الفلسطيني وهويته. كان ذلك، بالنسبة إليها، شكلاً من أشكال المقاومة، وطريقة لإسماع الصوت الفلسطيني في العالم. وكانت مجموعتها تكبر يوماً بعد يوم وتقام لها المعارض في العواصم العالمية ومنها المعرض الذي أقيم عام 1988 في "معهد العالم العربي" في باريس تحت عنوان "ذاكرة الحرير". هنا لا بدّ من الإشارة إلى شهادة المفكر الراحل إدوارد سعيد بتجربتها، وقد قال عنها: "جمعت وداد قعوار في بيتها تراث فلسطين وكأنّ فلسطين تعيش معها." معرض "شرق النساء" تحية رائعة لتراث عريق، وقد قدّمها مبدع فرنسي عالمي في إطار متحفيّ يليق بها، ذلك أنّ متحف "كي برانلي" هو اليوم من المراكز الثقافية الأساسية في العاصمة الفرنسية. افتتح في شهر يونيو عام 2006 ويتميز بمجموعاته النادرة التي تهدف إلى التعريف بالفنون والحضارات القديمة التي ازدهرت في إفريقيا وآسيا وأوقيانيا والقارة الأميركية قبل انتشار الثقافة الأوروبية. وقد وقف وراء المشروع الرئيس السابق جاك شيراك. أما المهندس المعماري الذي أشرف على بنائه فهو الفرنسي جان نوفيل الذي يتمتع بشهرة عالمية، ومن إنجازاته المعروفة مبنى "معهد العالم العربي" في باريس.