(26 فبراير 2006م في ذاكرة السعوديين: تتذكر إنجلترا 26 فبراير 1797م أنه اليوم الذي أصدرت فيه أول عملة ورقية في العالم، تمثلت في الجنيه! وتتذكر فرنسا نفس التاريخ من عام 1815م أنه اليوم الذي هرب فيه نابليون بونابرت من منفاه في جزيرة ألبا! وسنتذكر نحن السعوديون في ذات التاريخ من عام 2006م أنه اليوم الذي شهد ضُحاه الانهيار الأكبر في سوق الأسهم، تحطّم فيه سور الحوض المالي العملاق ب 3.1 تريليون ريال!) استكمل معكم في الجزء الثاني من هذا التقرير الموسّع حول الذكرى الخامسة لانهيار السوق المالية السعودية، محاولاً تكثيف الضوء على أبرز المقدمات التي أدّت مجتمعةً إلى انحدار السوق بتلك الصورة المريعة، والتي قد يعتقد البعض أنها جاءتْ فقط نتيجةً لقرار هيئة السوق المالية رقم (1-141-2006) بتاريخ 23 فبراير 2006م بتخفيض نسبة التذبذب اليومي في أسعار أسهم جميع الشركات المدرجة في السوق إلى 5 في المئة بدلاً من 10 في المئة، ابتداءً من يوم السبت الموافق 25 فبراير 2006م، متجاهلين عدداً من الإجراءات البالغة الأهمية صدرتْ قبل هذا القرار، لم يكن هذا القرار الأخير إلا أشبه (بكبسة زر) معلناً بداية انحدار السوق في موجةٍ هابطة هي الأطول في تاريخ السوق المالية السعودية منذ تأسيسها. السؤال الثاني – ما أسباب انهيار السوق المالية في 26 فبراير 2006م بتلك الصورة المدوية؟ يُمكن القول إن فريق الجهاز الاقتصادي ممثلاً في وزارة المالية، مؤسسة النقد العربي السعودي، وزارة التجارة والصناعة، وزارة الاقتصاد والتخطيط، هيئة السوق المالية، كأنه من (استفاق) فجأةً في الربع الرابع من عام 2005م من حالة استرخاءٍ دامتْ لأكثر من عامين مضيا، أكّدتها عدّة تصريحات رسمية صدرتْ في نهاية الربع الثالث من العام ذاته عن وزارة المالية ومؤسسة النقد بمتانة الاقتصاد الوطني، وخلو سوق الأصول فيه من أية مخاطر، وتحديداً من مخاطر تضخم الأسعار السوقية لأصوله المتداولة، صُعقتْ بعكسها تماماً عبر عدة تقارير صدرت في مطلع الربع الرابع من منظمات دولية أشارتْ إلى ارتفاع درجة المخاطرة في سوق الأسهم المحلية، خاصةً تقرير صندوق النقد الدولي (مشاورات المادة الرابعة للاقتصاد السعودي لعام 2005م)، وتضمنه توصياتٍ بضرورة اتخاذ عددٍ من الإجراءات العاجلة لمعالجة ومواجهة تلك المخاطر، زادتْ تلك المخاطر من شراستها لاحقاً مع مطلع 2006م عبر مزيدٍ الارتفاعات بصورةٍ ملفتة جداً في وتيرة التعاملات القائمة على أساس المضاربات العشوائية، دون النظر إلى أساسيات التحليل الاقتصادي والمالي للقطاعات وللشركات المساهمة المدرجة في السوق، كما زاد من مستويات المخاطرة في السوق حالة الإفراط في منح القروض والتسهيلات من القطاع البنكي. أفضتْ تلك التطورات مجتمعةً إلى بدء مختلف تلك الأجهزة كلٌ حسب مسؤولياته بالتحرّك السريع نحو اتخاذ الإجراءات الكفيلة بالحدِّ من الارتفاعات الكبيرة والسريعة لمؤشر سوق الأسهم المحلية، وبناءً عليه قامتْ مؤسسة النقد العربي السعودي في نهاية 2005م بإصدار ضوابط جديدة تحكم فيها اتفاقيات التمويل الاستهلاكي الممنوح من قبل البنوك واتفاقيات الضمان ذات الصلة، بدأ سريان العمل بها مع مطلع 2006م، ورغم أنها كانتْ ضوابط جيدة إلا أنها جاءتْ في وقتٍ متأخرٍ جداً، إذ نمتْ القروض الاستهلاكية خلال الفترة 2002-2005 بأكثر من 370 في المئة، حيث ارتفعت من نحو 38.4 مليار ريال في مطلع 2002م إلى أن وصلتْ بنهاية 2005م إلى نحو 180.9 مليار ريال، فيما وصل عدد المتعاملين في السوق إلى نحو 2.6 مليون متعامل وليس معلوماً كم نسبة من قام بالاقتراض منهم، ولكن كما يبدو من الارتفاع الملفت في أعدادهم، وفي حجم تلك القروض الاستهلاكية، وفي قيم التعاملات اليومية للسوق أنهم نسبة كبيرة. توالتْ عقب هذه الخطوة من مؤسسة النقد عدد من الإجراءات والقرارات والعقوبات الرادعة الصادرة عن هيئة السوق المالية، يمكن تتبعها ومقارنتها مع قيمة المؤشر العام لسوق الأسهم السعودية كما هو موضح في الجدول رقم (1) الذي يوضح أبرز القرارات والإجراءات التي تزامنت مع انهيار سوق الأسهم السعودية في فبراير 2006م. كما يبدو أن قرارات وإجراءات من الوزن الثقيل اُتخذتْ في فترة زمنية وجيزة تُلمح إلى انتهاج تلك الأجهزة المعنية لأسلوب العلاج (بالصدمات)، والذي يعد من أخطر أساليب معالجة الاختلالات أو التشوهات في السوق، بل قد يُفضي إلى نتائج عكسية أو مبالغ فيها قد تخرج عن السيطرة تماماً، وهو ما حدث بالفعل في أداء سوق الأسهم السعودية، إذ فقدتْ في ظرف 15 يوم عمل نحو ثُلث قيمتها (27.8 في المئة)، وهو ما دعا لانعقاد اجتماع المجلس الاقتصادي الأعلى برئاسة خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز -حفظه الله-، وبحث ما تعرضتْ السوق من هبوطٍ حاد، صدر عنه بيان في 15 مارس 2006م أعرب المجلس فيه عن ثقته في متانة الاقتصاد السعودي وقدرته على النمو والازدهار الذي سينعكس على مختلف أنواع النشاط الاقتصادي ويبشر بمستقبل جيد للاستثمار فيه، كما أعرب عن ثقته في الشركات الوطنية، حيث إن الاستثمار فيها استثمار في مستقبل الوطن ومستقبل أبنائه. وفي اليوم التالي عقد وزير المالية اجتماعاً مع نخبة من ممثلي القطاع الخاص السعودي، استعرض معهم أبرز ما دار في اجتماع المجلس الاقتصادي الأعلى، وأنه خلص إلى أن ما يحدث في السوق المالية لا تدعمه مؤشرات الاقتصاد الوطني، وبعد بحث المجلس للعوامل المؤثرة على سوق الأسهم السعودية التي تساعد المستثمرين على الاستفادة من الفرص المتاحة في السوق السعودية، خاصة في الشركات ذات القوائم المالية الجيدة، ومن هذه العوامل السماح للمقيمين من غير السعوديين للاستثمار بشكل مباشر في سوق الأسهم وعدم قصره على صناديق الاستثمار، وتخفيض القيمة الاسمية للسهم مما يسمح بتجزئة الأسهم وغيرها من المقترحات، وفي الختام أبلغ المجتمعين بأن الاستثمار في الاقتصاد الوطني وشركاته هو استثمار في مستقبل الوطن ومستقبل أبنائه، وأن هذا هو الوقت الذي يتوقع فيه من قطاع الأعمال الإقدام على ذلك. حدث لاحقاً أن وقْع الصدمة على رأس السوق كان أقرب إلى مستوى الضربة المميتة، فعلى الرغم من اتخاذ العديد من الإجراءات اللاحقة إلا أن السوق لم تلبث إلا وقد عادتْ إلى النزيف من جديد حتى وصلتْ خسائرها بحلول يوم الخميس 11 مايو 2006م إلى أكثر من 51.3 في المئة، وليستقر المؤشر العام عند 10046.83 نقطة، كانت سوق الأسهم السعودية قد فقدتْ أكثر من نصف قيمتها في ظرف 61 يوم عمل، صدر في اليوم التالي مرسوم ملكي كريم بتكليف د. عبدالرحمن التويجري الأمين العام للمجلس الاقتصادي الأعلى آنذاك رئيساً للهيئة، وإعفاء أ. جماز السحيمي من منصبه كرئيس للهيئة. لنتوقف قليلاً عند ما تقدّم من أسلوب علاجٍ بالصدماتْ العنيفة تجاه السوق، نطرح في ضوئها بعض التساؤلات الملحة، التي يجب نتأمّل في تفاصيلها لنستخرج بعضاً من الدروس اللازمة، وللتعلّم من عدم تكرار الأخطاء إن وجدتْ، أول تلك التساؤلات: هل كان تقييم صندوق النقد الدولي لوضع السوق دقيقاً وصحيحاً؟ لنفترض أن الإجابة (نعم). وعليه؛ هل كانتْ توصياته أو مقترحاته من أجل المعالجة صحيحة أيضاً؟ لنفترض أن الإجابة (نعم). بناء عليه؛ هل كانتْ الطريقة أو الأسلوب الذي تمّ من خلاله تطبيق تلك التوصيات (أسلوب الصدمة) كان هو أيضاً صحيحاً؟ لنفترض أن الإجابة (نعم). نطرح معاً الآن السؤال الأهم: إذا كان كل ما تقدّم صحيحاً من الألف إلى الياء من وجهة نظر جميع من تقدّم ذكرهم الأجهزة المعنية ومعهم صندوق النقد الدولي، هل كانتْ تلك النتيجة بخسارة أكثر من نصف قيمة السوق في 61 يوما هي الهدف النهائي لكل تلك الجهود والإجراءات؟! إذا كانت الإجابة (نعم) وهذا ما أتحدّى أن يُصرّح به أي من تلك الأطراف، ولكن في حال قيل لنا (نعم)؛ فأبسط الردود على هذه (النعم) وقائلها هو: لماذا إذا بعد 15 يوم عملٍ من الانهيار تغيرت القرارات والإجراءات 180 درجة مئوية؟ محاولة تدارك الأوضاع المريرة للسوق التي تهاوتْ في قناتها المظلمة. هذا يعني بدوره أن أخطاء حدثتْ في أحد أو كل ما تقدّم (إما التقييم خاطئ، أو التوصيات خاطئة، أو التنفيذ خاطئ)، وفي جميع النتائج مهما كانتْ النتيجة فإنها تؤكد أن ما حدث للسوق آنذاك، وما حدث لاحقاً من استمرار حالة الضعف والخسائر اللاحقة على السوق لا تزال سجادتها الحمراء تتدحرج ممتدة حتى وقتنا الراهن، ولا يبدو في الأفق القريب -بكل أسف- ما يُشير إلى احتمال أن تتوقف هذه السجادة الحمراء الطويلة عند حدٍّ منظور. إننا ونحن ننتقل من تحت الغمامة السوداء للسنة الخامسة من الانهيار، وندخل تحت ظلال الغمامة السوداء للسنة السادسة، وكما يبدو أنها غير البعيدة إطلاقاً عن سابقتها العجاف، يجدر بل يجب أن نتوقف كثيراً بوطنية وبمسؤولية قصوى تجاه مقدرات الاقتصاد الوطني، وتجاه سوقه المالية الذي يمثل مستودع ثروات ومدخرات المجتمع السعودي بأسره، نطرحُ سؤالاً ملحاً في وجه جميع الأطراف المعنية بالسوق مضافاً إليها صندوق النقد الدولي: كما يبدو أن خطأً فادحاً قد وقع، إما في تقييم أوضاع السوق، أو في التوصيات والمقترحات، أو في آليات التنفيذ، هل تمّتْ مراجعة أي من هذه الاحتمالات؟! في اعتقادي أن الإجابة بالنفي! فما عهد أحدٌ في العالمين أن سمع باعترافٍ صريح من صندوق النقد الدولي بأنه قد ارتكب أية أخطاء من أي نوع؛ اللهم تصريحات رئيسه التنفيذي واعترافه بأن الصندوق لم يستطع فقط (التنبؤ) بمقدمات الأزمة المالية العالمية، وعدا ذلك فإن هذا الصندوق يرى من خلال رؤية منسوبيه ألا باطل يأتي أيا من أعمالهم ما تقدّم منها وما تأخر. كنتُ قد أجريتُ في نهاية 2006م مسحاً رقمياً دقيقاً شمل أكثر من 62 سوقٍا مالية واقتصادٍ حول العالم خلال الفترة 1991-2006 أي خلال فترة 16 سنة، اكتشفتُ حينها حقائق في غاية الغرابة مقارنةً بما حدث لسوقنا المالية المنكوبة! كان من أبرزها أن سوقنا المحلية لم تصل بأي من مؤشراتها الأساسية "النمو السنوي، مكرر الربحية، معدل السعر السوقي إلى القيمة الدفترية، معدل الربح الموزع إلى السعر إلى السوقي" إلى مستوى الحالات الشاذّة التي كشف عنه المسح الرقمي الشامل لتلك الأسواق! فمن تحدث عن ارتفاع مكرر ربحية سوقنا إلى أكثر من 44 مكررا قبيل اندلاع الأزمة، ماذا سيقول إذا علم أنها قد وصلت إلى 824.4 مكررا في بورصة تركيا "Istanbul SE" عام 2001م الذي نمت فيه بنحو 46 في المئة، لقد كان أكبر مكرر ربحية مُسجّل خلال فترة المسح! حدث أن تعرّضت البورصة التركية في العام الذي تلاه 2002 إلى تصحيحٍ لم يتجاوز -24.8 في المئة، لتعود إلى النمو في عام 2003 بنحو 79.6 في المئة. أما على مستوى أعلى معدل نمو سنوي للمؤشر العام في تلك الأسواق خلال الفترة فكان المتحقق في عام 1991 في البورصة البرازيلية "Sao Paulo SE" التي نمت بأكثر من 2316 في المئة! ثم ارتفعت في عام 1992 بأكثر من 1015 في المئة، ثم تعرّضت إلى تصحيح في 1993 بانخفاضٍ لم يتجاوز -44.6 في المئة. كم كانت سعيدةً بعض تلك الاقتصادات التي أخضعتْ كل ما صدر عن صندوق النقد الدولي بخصوصها للمراجعة والنقد، ولا أود التركيز فقط على الصندوق بصورةٍ قد تجعله (الشماعة) التي نعلّق عليها أخطاءنا المحتمل ارتكابها، التي حتى وإن حدثتْ فلا يمكن على الإطلاق أن تعفيهم عن تحمّل المسؤولية كاملة، إذ بإمكاننا أن نصدَّ الصندوق كما سبق أن صدّهم مهاتير في أزمة دول شرق آسيا 1997-1998. إذاً بموجبه، فأي خطأ يُحتمل وقوعه في أيِّ من الحقول الثلاثة أعلاه، فإن المسؤولية تقع على الأطراف المعنية بالسوق دون استثناء، حسب اختصاص كل منها ومسؤولياتها المحددة ومدى ارتباطها بأي من تلك الإجراءات أو التوصيات. قبل الختام، عُد قارئي الكريم إلى الوراء كثيراً، عُد إلى تاريخ 15 مارس 2006م، انظر متأملاً وبعمق إلى العبارة التالية على لسان وزير المالية موجهاً إياها إلى ممثلي القطاع الخاص، ولعموم المجتمع الاستثماري المحلي (أن الاستثمار في الاقتصاد الوطني وشركاته هو استثمار في مستقبل الوطن ومستقبل أبنائه، وأن هذا هو الوقت الذي يتوقع فيه من قطاع الأعمال الإقدام على ذلك)، كانت قيمة المؤشر عند 15606.38 نقطة، واليوم هي عند 6263.79 نقطة، أي أننا في مواجهة خسارة تعادل 60 في المئة، تُرى بأي معيارٍ أو تقييمٍ يُمكن تفسير هذه العبارة أو التوصية مقابل ما نواجهه اليوم من حقائق محزنة لواقع السوق؟! أخيراً في ختام هذا الجزء: يحق لنا جميعاً أن نتساءل: أين هي تلك الأجهزة المعنية أعلاه من السوق، ومعهن خبراء صندوق النقد الدولي مما جرى ويجري في هذه السوق المنكوبة منذ خمس سنوات؟! لماذا لم تقم بذات الجهد؛ لانتشال السوق المالية السعودية من وعثاء انهيارها الذي تتحمّل مسؤوليته بالدرجة الأولى؟ إلا إذا كانتْ ترى أوضاعها الراهنة (عين الرضاء بالنسبة لها). وأكمل معكم -بمشيئة الله- في الجزء الثالث من سلسلة هذا التقرير الخاص مناقشة وبحث سؤالنا الثالث: لماذا استمرَّ انهيار السوق المالية طوال الفترة الممتدة من تاريخ 26 فبراير 2006م إلى يومنا هذا 26 فبراير 2011م؟!