(26 فبراير 2006م في ذاكرة السعوديين: تتذكر إنجلترا 26 فبراير 1797م أنه اليوم الذي أصدرت فيه أول عملة ورقية في العالم، تمثلت في الجنيه! وتتذكر فرنسا نفس التاريخ من عام 1815م أنه اليوم الذي هرب فيه نابليون بونابرت من منفاه في جزيرة ألبا! وسنتذكر نحن السعوديين في ذات التاريخ من عام 2006م أنه اليوم الذي شهد ضُحاه الانهيار الأكبر في سوق الأسهم، تحطّم فيه سور الحوض المالي العملاق ب 3.1 تريليون ريال!) تقف اليوم السوق السعودية عند ذكرى مؤلمة، تقفُ عند ذكرى انهيارها الخامس وتدخل عامها السادس بعده، الذكرى المؤرخة في 26 فبراير 2006م. نحاول هنا في (الرياض الافتصادي) عبر هذه السلسلة من التقارير استجلاء ما يمكن استجلاؤه بهدف المراجعة واستخلاص الدروس، دروساً بدتْ واضحةً للعيان منذ السنة الأولى للانهيار ولكن لم تنتقل للأسف إلى منطقة التأثير على أغلب القرارات المرتبطة بالسوق المالية. هل أمرٌ محيّر ما جرى ويجري للسوق المالية السعودية طوال الخمس سنواتٍ الماضية؟! إن وجدته محيراً فهذا يعني نقصاً واجهته في المعلومات والحقائق المحركة لاتجاهات وتطورات السوق، وإن لم تجده محيّراً كما سيبدو لك بعد قراءتك لهذا التقرير؛ فلا أقل أبداً من مواجهة الأسباب الفعلية لحدوث المشكلة، والأسباب الكامنة وراء استمرارها بهذه الصورة المجحفة بحق السوق والمتعاملين فيها -أو من تبقّى منهم- على وجه الخصوص، والمجحفة بحق الاقتصاد الوطني بوجهٍ عام. دأب الجميع دون استثناء طوال الخمس سنواتٍ الماضية على طرح السؤال التقليدي: لماذا انهارت السوق المالية السعودية؟ ورغم تبلور بعض الإجابات من هنا ومن هناك، إلا أن إجابةً تشفي الغليل يُمكن معها البدء في اتخاذ خطوات الإصلاح والمعالجة وإعادة البناء وترتيب الأوضاع المتهاوية، أؤكدها بكل أسف أنها لم تحضر أبداً ولم يحدث أن وجدنا ما يقنعنا جميعاً. نأمل هنا أن نستجمع أكبر قدرٍ ممكن من معلومات الإجابة، ونأمل أن نساهم جميعاً عبر حوارٍ وتفكيرٍ موضوعي في التقاط إشارات الحلول، وتوظيفها من ثم في اتجاه إعادة الثقة أولاً للسوق الأكبر في منطقة الشرق الأوسط، وإعادتها إلى الطريق الذي من أجله تم تأسيسها لأجل خدمة أغراض الاقتصاد الوطني، وهل يُمكن تحقيق ذلك في غياب ثروات أفراد المجتمع السعودي؟! بدايةً؛ للإجابة على السؤال التقليدي أعلاه: لماذا انهارتْ السوق المالية السعودية في 26 فبراير 2006م؟ سنطرح ثلاثة أسئلة محورية على النحو التالي: 1) ما أسباب صعود السوق المالية بتلك الصورة القوية خلال الفترة الممتدة من مطلع 2003م حتى تاريخ 25 فبراير 2006م، التي تبلغ مدتها الزمنية بالتحديد 940 يوم عمل بالتمام والكمال؟ 2) ما أسباب انهيار السوق المالية في 26 فبراير 2006م بتلك الصورة المدوية؟ 3) لماذا استمرَّ انهيار السوق المالية طوال الفترة الممتدة من تاريخ 26 فبراير 2006م إلى يومنا هذا 26 فبراير 2011م التي تبلغ مدتها الزمنية بالتحديد 1262 يوم عمل بالتمام والكمال؟ أعتقد أن جمع إجاباتٍ دقيقة مستندة إلى أرقام وحقائق على تلك الأسئلة الثلاثة أعلاه، سيساهم بصورةٍ كبيرة في الإجابة الوافية على السؤال الدائر في ذهن كل سعودي وسعودية عاصر وذاق مرارة انهيار السوق المالية. ثم بعدئذ، ومن خلال تلك الإجابات سنختم هذه السلسة من التقرير (الذي يقع في خمسة أجزاء) بما نعتقد أنه قد يُساهم في الحل، وأنه سيدعم خروج السوق من حالتها الضعيفة التي لا ترتقي إلى طموح المجتمع الاستثماري السعودي، ولا إلى واقع وإمكانات الاقتصاد الوطني بالدرجة الأولى. السؤال الأول – ما أسباب صعود السوق المالية بتلك الصورة القوية خلال الفترة الممتدة من مطلع 2003م حتى تاريخ 25 فبراير 2006م، التي تبلغ مدتها الزمنية بالتحديد 940 يوم عمل بالتمام والكمال؟ لا عجب أن تغيب تلك الإجابة في ظل غياب الإحصاءات والأرقام التفصيلية المتكاملة حول صلب تعاملات السوق المالية، والمحاولة هنا تتم بموجب القدر الذي توافر من حصيلة تلك الأرقام التفصيلية؛ التي تم الحصول عليها بشقِّ الأنفس! وعليه؛ يمكن وصف خلاصة الإجابة على السؤال الأول أعلاه بالعنوان التالي (تصلّب عدد الشركات، مقابل تدافع المستثمرين). لم تكن السوق المالية السعودية قبل نهاية 2002م أو مطلع 2003م تُشكّل حيزاً مهماً أو كبيراً من اهتمام المجتمع السعودي، بل لم يكن أغلب أفراد المجتمع السعودي يعرف حتى أدنى معلوماتٍ عن سوق الأسهم المحلية، إذ لم يكن يتجاوز المتعاملين منهم في السوق بنهاية 2002م أكثر من 77.9 ألف متعامل فقط، وإذا ما أضفتْ نحو 60.6 ألف مشترك بالصناديق الاستثمارية العاملة في السوق المحلية، فإن المجموع 138.5 ألف مستثمر ستجد أنه لا تتجاوز ما نسبته 0.6 في المئة من إجمالي السكان، ومع نهاية ذلك العام حدث أن تم الإعلان لعموم أفراد المجتمع عن بدء الاكتتاب العام في شركة الاتصالات السعودية، كان أن بدأت ثورة عالم الأسهم في حياة أولئك الأفراد من المجتمع، ولتنتشر انتشار النار في الهشيم بين القاصي والداني، اندفعَ بعدها الأفراد يجرُّ بعضهم بعضاً إلى أروقة سوقٍ مالية ضحلة، تفتقر إلى أبسط الأسس التنظيمية، وزاد من سوء الطالع أن حتى تلك الأسس المنظمة والمراقبة لعمل السوق كانت تتحرك بسرعة السلحفاة! بدأت وتيرة التدافع بمئات الآلاف ما لبثت أن تحولت إلى خانة الملايين من الأفراد، على سوقٍ قصيرة الجدران، محدودة الكيانات، لا يتجاوز عدد الشركات المدرجة فيها أكثر من 68 شركة، ولا تتجاوز قيمتها السوقية أكثر من 280 مليار ريال، وقيمة تداولاتها كانت تحوم حول ال 133 مليار ريال فقط في العام بأكمله! لتبدأ مع مطلع 2003م سباقاً مع الزمن لم يشهد الاقتصاد السعودي ولا السوق المالية السعودية لهما مثيلاً من قبل. ارتفع في ظرف أقل من 3 سنوات (940 يوم عمل للسوق) أعداد المتعاملين من نحو 77.9 ألف متعامل إلى نحو 3 ملايين متعامل (يمتلكون نحو 4.2 مليون محفظة استثمارية) بنهاية الربع الأول من عام 2006م، شهدتْ بعض مقاطع تلك الفترة الزمنية أحداثاً ملفتة على مستوى دخول المزيد من المتعاملين إلى السوق، فقد شهد الربع الأول من عام 2003م دخول أكثر من 263.5 ألف متعامل (نحو 3.4 أضعاف عدد المتعاملين في نهاية 2002م)، وفي نهاية 2004م ومطلع 2005م زادتْ وتيرة الدخول بصورةٍ أكبر، حيث دخل منهم إلى السوق خلال الربع الرابع من 2004م أكثر من 717.8 ألف متعامل، ثم خلال الربع الأول من 2005م دخل أيضاً إلى السوق نحو 1.1 مليون متعامل، ليصبح العدد الإجمالي للمتعاملين بنهاية ذلك الربع أكثر من 2.47 مليون متعامل (يمتلكون نحو 2.9 مليون محفظة استثمارية)، إلى أن نصل إلى الربع الأول من 2006م الذي شهد دخول نحو 401.6 ألف متعامل، ليصبح إجمالي أعداد المتعاملين لنحو 3 ملايين متعامل، أي نحو 51 ضعف عددهم في نهاية 2002م. إزاء الاندفاع العظيم ارتفعت القيمة الرأسمالية للسوق من أقل من 280 مليار ريال فقط في نهاية 2002م، إلى أن تجاوزت سقوفها القصوى قمة 3.1 تريليون ريال بنهاية يوم 25 فبراير 2006م، وارتفعت قيمة تعاملاتها السنوية من 133.8 مليار ريال إلى أن فاقت نحو 5.3 تريليون ريال، انعكس هذا الرالي العظيم من الأرقام القياسية المتصاعدة صعوداً على قيمة المؤشر العام للسوق المالية؛ ليرتفع من نحو 2,500 نقطة إلى أن وصل إلى سقفه الشاهق عند مستوى 20,634 نقطة مع صباح يوم 25 فبراير 2006م، أي بما يوازي نسبة للصعود فاقت 725 في المئة خلال تلك الفترة الوجيزة، وتضخمتْ على أثره المؤشرات الرئيسة للسوق المالية الناشئة، حيث ارتفع مكرر أرباح السوق من حدود 15 مكرر إلى أن تجاوز 47 مكرر لحظة الانهيار، وارتفع مضاعف القيمة السوقية إلى القيمة الدفترية للسهم الواحد من نحو 2.3 مكرر، إلى أن تجاوز 11 مكرر لحظة الانهيار، وفي المقابل انخفض العائد الموزع على الأسهم من نحو 4 ريال للسهم الواحد، إلى أن وصل إلى 1 ريال للسهم للواحد، وشهدتْ تلك الفترة ارتفاعاً هائلاً في معدلات تدويرها وصلت عبر عنف عمليات الشراء والبيع إلى أكثر من 430 في المئة! مقارنةً بمستواها خلال عام 2002م الذي لم يتجاوز 48 في المئة. كل ذلك حمل في جعبته ما ينبئ عن دخول السوق المالية السعودية في منعطفاتٍ بالغة الخطورة، دقّت بموجب تلك المؤشرات الأساسية المتضخمة ناقوس الخطر قبل لحظة الانهيار بنحو عام؛ أي منذ مطلع الربع الثاني من عام 2005م، ولعل مما يُلفت الانتباه أن عاماً سبق لحظة الانهيار لم يدفع أي من الجهات الرقابية أو ذات العلاقة بالسوق المالية للتحرك بخطواتٍ جادة نحو منع الفأس من أن تضرب الرأس بذات القوة التي حدثت في منتهى فبراير 2006م، بل على العكس كانت التصريحات الرسمية من مؤسسة النقد العربي السعودية تدعو للطمأنينة وعدم القلق، وأن لا مخاطر يمكن ذكرها تكمن في سوق الأصول السعودية المحلية، بل لقد صرّحت بأنها ستتدخل نحو منع أية انهيارات لو حدثت في حال ظهر ما يُشير إلى احتمال وقوعها، أما في جانب وزارة التجارة وهيئة السوق المالية فلم يزد الشركات الجديدة التي سمحت لها بالإدراج في السوق المالية عن 9 شركاتٍ فقط طوال فترة الصعود، وخلال العام الذي بدأت فيه مؤشرات الخطر تلوح في الأفق لم يتجاوز عدد الإدراجات أكثر من 4 شركات مساهمة! على أننا نتذكر جميعاً أن الأسهم المدفوعة في السوق ليست جميعها متاحةً للتداول، إذ لم تتجاوز نسبة المتاح منها للتداول أمام هذه الحشود الزاحفة من المتعاملين نسباً تراوحت بين 15-18 في المئة فقط، ما يعني أن تلك الملايين كانت تتصارع على كعكة محدودة الحجم لم يتجاوز عددها 250 مليون سهم مصدر (باستبعاد أثر التجزئة، الذي أتى لاحقاً فيما بعد انهيار فبراير 2006م).مؤدى القول الأخير هنا أن حتى وزارة المالية لم تلتفت حتى هي إلى ما هو قادم بمؤشراته الخطيرة على تعاملات السوق المالية، رغم أن طاحونة السوق الهائلة التي أزبدت وأرعدتْ في أرجاء الاقتصاد، بما أدّى بدوره إلى إحداث خللٍ كبير في قوى السوق بين عرضٍ هش وطلبٍ مارد، عكس في ثناياه صراعاً رهيباً ورهيباً جداً لدى الملايين المتدافعين من المتعاملين على أسهمٍ محدودة العدد في السوق، وزاد من اضطرام ملحمة السوق التاريخية أن فُتح المجال على مصراعيه أمام الملايين من المتعاملين محدودي الخبرة المالية والاستثمارية؛ للاقتراض من البنوك التجارية لتحقيق أكبر ما يمكن تحقيقه من المكاسب، تدغدغهم الأحلام والأمنيات نحو تحقيق أكبر الثروات الطائلة في ظرف أشهرٍ معدودة، لترتفع على أثر تلك المغامرات المتهورة جداً أحجام قروض الأفراد من أقل من 40 مليار ريال إلى أن تجاوزت 188 مليار ريال، هذا عدا التسهيلات البنكية بضمان أصول المحافظ الاستثمارية التي يُقدّر متوسطها بأنها فاقت 90 مليار ريال حتى لحظات الانهيار!في الجزء الثاني نكمل معاً هذا التقرير الموسّع حول الذكرى الخامسة لانهيار السوق المالية السعودية، ودخولها العام السادس وكما لا يبدو حتى الآن أن أوضاعها المتردية لم يبرز ما يُشير أو يؤكد على خروجها من حالة التعثّر والتراجعات الحادة، التي أصبحتْ سمةً ملازمة لأداء السوق المالية الأكبر في منطقة الشرق الأوسط. سيكون الجزء الثاني مخصصاً للإجابة على سؤالنا الثاني – ما أسباب انهيار السوق المالية في 26 فبراير 2006م بتلك الصورة المدوية؟ وإلى الملتقى.. عبدالحميد العمري* * عضو جمعية الاقتصاد السعودية