أبداً لم ينفك توم بيتي عن كونه فناناً من الطراز الأول، مستقلا ومبدعا بروح موسيقية نقية، واضحا وتلقائيا في قصائده الغنائية عبر مسيرته الطويلة منذ منتصف سبعينيات القرن الماضي في كل حالاته الموسيقية المعروفة كفنان منفرد أو ضمن فرقته الهارتبريكرز أو حتى في مشاركاته الأخرى التي أثرت في مسيرة الأصناف الموسيقية المعروفة مثل الروك والجاز أو الهارتلاند روك الأمريكي النمط الذي اشتهر به مع آخرين مثل بوب سيجر وبروس سبرينغستين وغيرهما الذي أصبح الأكثر رواجاً في نهاية الثمانينيات. ولعل ألبومه المسجل الأول كفنان منفرد «حمى القمر المكتمل/البدر» الذي صدر عام 1989م، هو الأكثر تعبيراً عن قمره المكتمل في نقطة تأتي في المنتصف من حياته الفنية، مع فرقته التي مازال عضوها الأبرز إلى وقتنا الحاضر منذ خمسة وثلاثين عاماً، أو في السنتين اللتين قضاهما بين عامي 1988م إلى عام 1990م مع الويلبيورز الفرقة التي كونها مع أبرز فناني أمريكا وإنجلترا، وهم جورج هاريسون، بوب ديلان، جف ليني، وروي أوربيزون، كل هذه الاندماجات العميقة مع فنانين من خامة حقيقة كونت الروح التي عرف بها توم بيتي كفنان أصيل له لمسته الخاصة على جيل معاصريه ومن بعدهم. كما هو الحال في مجمل أعمال ألبوم «حمى البدر»، فقد تشارك بيتي كتابة هذه الأغنية مع جيف ليني، ومع إنجازها في مدة قصيرة يقال إنها فقط يومان، تم تسجيلها لتكون مفتاح مسارات الألبوم. في إحدى الملاحظات التي سجلها بيتي في الكتيب الخاص بألبوم أعمال الفرقة الأفضل، يخبرنا بأنهما هو وليني كانا يشتغلان على بنية الأغنية اللحنية مع اعتمادهما على الإيقاعات الثلاثة الرئيسة، عندما توقف ليني وأخبره أنه يجب أن يصرف اهتمامه المكثف للوصول إلى الإيقاع النهائي قليلاً حتى يعرف ماذا يريد أن يقول، بيتي يحاول مناكدته مازحاً وهو يسايره على الإيقاع، إنها لفتاة صالحة، تحب أمها، والإله وتحب أمريكا أيضاً، ومن دون تخطيط مسبق يبلغان مدى مدهشاً في مسار الفكرة التي تنقحت فيما بعد لتصل إلى الصورة النهائية التي عشقها الجمهور لاحقاً، واعتلت قائمة البيلبورد لمدة أسبوع، ثم بقيت فيها على مراتب مختلفة مدة ثلاثة وثلاثين أسبوعاً، ما جعلها الأغنية الأعلى مرتبة والأطول في تاريخ بيتي إلى اليوم. بنية الأغنية اللحنية من النوع السهل الممتنع، مألوفة بشكل مدهش، تقوم على ثلاث نوتات متقاربة، ترتفع، تتوازى، ثم تنخفض، الجيتار الرئيسي كمدخل، بهدوء يأتي الجيتار المساعد في الخلفية، ومع دخول صوت بيتي الصافي والفتي بقليل تأتي الطبول التي كانت تعمل على الصنج بانخفاض لا يدرك بسهولة منذ بداية الأغنية، ومع الكورس وارتفاع نبرة بيتي تدخل آلات الإيقاع الأخرى مع انقطاع في نهاية الكورس، ثم يأتي صوت ليني ككورال مصاحب في المقطع الثاني، وهكذا تستمر الأغنية باتساق على مستوى الإيقاع مع دخول الكورس الثاني المنخفض عن سابقه، ثم تشارك طرقات الجيتار الكهربائي الجديدة على الإيقاع الأساسي، ولكن بنكهة منخفضة جداً، ثم تنتهي الأغنية مع تمازج أشد مع جيتار كهربائي كعنصر أساسي للإغلاق الذي يأتي على هيئة انحسار معتادة في أعمال بيتي السابقة مع فرقته الهارتبريكرز. كلمات القصيدة الغنائية هي الأخرى تحمل صفة البساطة، تتحدث بنبرة هادئة لا مبالية كمنولوج ذاتي، يعبر فيه شاب عن الفتاة التي «كان» يحبها، فهو يصفها بالفتاة الصالحة والطيبة، أمريكية نموذجية، لكنه لا يجد غضاضة في جرح قلبها، وتركها من دون سبب، وهو في ذلك لا يبدو منزعجاً مما فعل، بل إنه يصخب فرحاً بأنه يستطيع السقوط بحرية، وها هو يتزلج منطلقاً بسعادة، لكنه لا يخفي ميوله الغريبة في التخلص من الحياة ولو للحظات بسيطة. هناك كثير من الوصف الجغرافي المغرق في محلية مدينة لوس أنجلوس مثل حي ريسيدا، وطريق مولهولاند، وجادة فينتشورا، ووادي سان فيرناندو، الوصف المتباين عن الفتيان السيئين الذين يقفون في الظل والفتيات محطمات القلوب في المنازل، والأمنيات الغريبة عن رغبته كتابة اسم محبوبته في الهواء، والسقوط بحرية في الفراغ، وهو ما يجعل الأغنية تحمل معنى أكثر باطنية من الظاهر على السطح، فهناك تأنيب ضمير يبدو مختبئاً في عمق الشاب المستهتر، هناك نوايا غريبة في الانتحار، ربما يكون سببها الشعور بالاستغلال الذي يعانيه سكان لوس أنجلوس. هناك اقتراحات أخرى تتعلق بالإدمان، يربطها بعض الجمهور وبشكل شطحات غير مستغربة من بعض الألفاظ التي تبدو مختلفة عن الكلمات التي تشرق عليها الشمس إن صح التعبير، فهناك الفتيان السيئون الذين يقفون في الظل، ومصاصو الدماء الذين يعبرون وادي سان فيرناندو!، ولعل في نسخة الأغنية المصورة، ما يشفع لهذه الشطحات مدخلها، وربط مفهوم السقوط الحر بالتزلج على اللوح. في عام 2006م، وضمن مقابلة أجرتها إحدى المجلات الموسيقية مع توم بيتي، قال إنه يعتقد أن «سقوط حر» أغنية جيدة، ربما كانت أحد أعمالي المفضلة لو أنها لم تتحول لترنيمة مشهورة، لكني في النهاية ممتن لحب الجمهور لها. ولعل في هذه الكلمات دلالة على الشهرة التي تتمتع بها الأغنية، التي جاءت في الترتيب السابع والسبعين بعد المائة في قائمة الرولينغ ستون الشهيرة لأفضل خمسمائة عمل غنائي في التاريخ، كما أعيد تسجيلها وتوزيعها مراراً وتكراراً على يد العديد من الفرق الشبابية في أمريكا والعالم.