على الرغم من المؤتمرات والندوات التي تعقد بين الحين والآخر، بهدف التأكيد على ضرورة الوصول إلى تنمية مستدامة تطال كافة القطاعات الحيوية، فإن واقع الحال والمؤشرات والوقائع تشير إلى أن هذه التنمية مازالت في طور الولادة وتخطو خطواتها الأولى في كثير من مدننا . وهي قد تتفاوت من مدينة إلى أخرى تبعا للإمكانات والظروف المتوافرة، والتنمية المستدامة في معظم مدن المملكة شهدت إخفاقا في بعض القطاعات، مقابل بعض النجاح في قطاعات أخرى، ففي مدن محددة تحققت التنمية المستدامة في مجالات الصحة والتعليم ومستويات المعيشة، غير أن هذا النجاح بقي نسبيا ولم يصل إلى حدود الطموح لأسباب موضوعية، وذاتية متعددة. وهذه الأسباب قد تتمحور في غالبيتها ضمن عناوين تبدأ في غياب حدود الفقر والأمية والزيادة السكانية وعبء المديونية والطبيعة القاحلة ومحدودية الأراضي وخصوصاً السكنية منها والمياه.. الخ؛ من الأسباب المشاهدة للعيان . ولأن هذه الأسباب وسواها، كانت ومازالت تشكل معوقا للتنمية المستدامة ، كان لابد من تكريس وتأكيد المميزات التنموية لكل منطقة من مناطق المملكة من مفهوم دخلها المادي حسب إمكانياتها الزراعية أو السياحية أو السكنية كدبي وغيرها من الإمكانيات، ذلك أن ما هو متوافر من إمكانات في هذه المنطقة أو تلك قد لا يتوفر في منطقة أخرى، وبالتالي فالعمل ضمن هذه الإمكانات يفترض أن يمثل عنوانا جوهريا لدينا مستقبلاً عند تحديد الخطط الخماسية لكل منطقة، الذي يحمل بين طياته الكثير من التحديات التي تدفع وتشجع على ضرورة وعيها وإدراكها، وعلى وجه التحديد ما يتمثل منها في الجانب العمراني والاقتصادي، والذي بات بمثابة السلاح الأقوى في معايير ومفاهيم ما بعد المدن الصناعية ، والخطط الخماسية ، يفترض ألا يتمثل في قطاع دون آخر. ذلك أن التنمية المستدامة هي كل متكامل، فإذا كان النهوض الإسكاني يشكل محورا أساسيا، فذلك يعني وببساطة توفير كافة الشروط التي من شأنها الارتقاء في هذا القطاع، فتوفير المساكن على سبيل المثال من التي نفتقدها اليوم بفعل الغلاء الشاسع عن الواقع بأسعار العقار وعدم القدرة على تملك المسكن، هذا الارتقاء بات يستوجب العمل على مستوى المناطق وليس على مستوى الأفراد والهيئات كهيئة الإسكان المستحدثة والتي أتوقع أن تصبح حديثة المهام مستقبلاً ، فإذا كان الهدف الجوهري للتنمية المستدامة يتمثل في الحد من الفقر والأمية وانتشار الأمراض المستعصية ، فذلك يعني قصورا في فهمنا للتنمية أو التغني بما لدينا من تنمية عمرانية لذا ضرورة دعم خطط العمل والبرامج الإقليمية والوطنية والمحلية من خلال تمويل المشروعات الصغيرة بهدف التخفيف على شركات التمويل الكبيرة للاستثمار في قطاع السكان لاستدامته وديمومته ، إلى جانب إعطاء اهتمام خاص بدور السياسات الإسكانية التي تشكل عنصرا أساسيا في الإسهام بتفعيل دور التنمية وتجسيدها بجميع جوانبها وخصوصاً الإسكانية منها . كل ما أتينا على ذكره يبقى منقوصا فيما خص التنمية المستدامة في مجال الإسكان في حال عدم الالتفات إلى المخططين وخصوصاً الاقتصاديين منهم، لذلك لابد من تعزيز الجهود في هذا الجانب من خلال توفير الكوادر المؤهلة لقيادة هذا القطاع المهم في مناطق المملكة ، ودعم برامج التمويل لقطاع الإسكان الذي ناديت به في مقالاتي السابقة ، طبعا دون إغفال أهمية السياسات المرنة لتملك المسكن والمحافظة على قيمته المعنوية والمادية مستقبلاً من خلال تشجيع الإدارة المتكاملة من معرفة وأنظمة عمرانية وعقارية كونها تشكل عصب التنمية لتملك المسكن ومن ثم الاستدامة به . ولكن ما يحزن البعض من جهة ويستغرب البعض من جهة أخرى لو قلنا ان العقبات لترجمة التنمية المستدامة في قطاع الإسكان في مناطقنا متوفرة من جهة حضور الإمكانات المادية والمخططات السكنية التي مازالت خارج التوظيف الأمثل. وأخيرا ان ما دفعني اليوم إلى ربط التنمية المستدامة بقطاع الإسكان بوجه الخصوص هو مجموعة من الحقائق التي مازالت تغيب عن ساحة الكثير من الاقتصاديين والناس العاديين، ففي العقد الأخير من القرن الماضي والذي أعقبه تواتر في الفقر العالمي، هناك (15 %) من سكان العالم في البلدان ذات الدخل المرتفع يستهلكون 54% من العائد الاقتصادي لقطاع الإسكان ، في حين أن 40% من الفقراء في البلدان ذات الدخل المنخفض يستهلكون 11% من العائد الاقتصادي لقطاع الإسكان ، وهذا بعينه هو عدم تكافؤ العدالة الاقتصادية لقطاع الإسكان بين شرائح المجتمع وفيه استبداد على مستقبل الأجيال وهذا هو عدو التنمية المستدامة . والإتيان على بعض الأرقام التي تضخها منظمات دولية ، يرمي إلى تذكير أصحاب التشريع لدينا، بأن مساحة الفجوة الإسكانية تزداد اتساعا في العالم ، ووصلت إلى حدود بات يصعب معها إحداث شيء من التوازي أو التكافؤ. وفي مواجهة هذه الحقائق لابد من التنمية المستدامة لقطاع الإسكان لدينا الأخذ بمفهوم أو شعار تحقيق جميع عناصر التنمية المستدامة لقطاع الإسكان لحفظ حق أجيالنا الحالية والقادمة في تملكهم المسكن . * باحث في التخطيط والتصميم العمراني