ماأبعد الفرق بين الأمس واليوم ! .. فرق الثرى من الثريا والغرب من الشرق ! .. علماً بأن الأمس الذي نتحدث عنه وعن عجائبه لم يمض عليه أكثر من ستين عاماً .. عجائب الأمس القريب في بلادنا وحياتنا تشمل أهم الأمور التربية والتعليم والسكن والزراعة والتطبيب .. أما الصناعة فلم تكن موجودة أصلاً بهذا المفهوم ! دعونا الآن نتحدث عن نوع مشهور من التطبيب لا يزال عليه شهود ! .. وهو صورة مصغرة -وإن كانت معبرة- عن التغيير الإيجابي العظيم الذي عاشه مجتمعنا خلال وقت قصير .. كلنا نعرف الآن كيف يتم خلع السن أو الأسنان حيث يعطى المريض مضادا حيويا ومسكنا قويا قبل الخلع إذا كان هناك خرّاج خشية المضاعفات، ويتم القلع تحت تخدير موضعي قوي لا يشعر به المريض بأي ألم وبواسطة أجهزة طبية معقمة وآمنة تماماً بإذن الله ، ومع ذلك يصيب الواحد منا الكرب حين يذهب لخلع سن ! .. أما قبل خمسين أو ستين عاماً فقد كان خلع الضرس (عملية تعذيب رهيب) لشدة الجهل ونقص الإمكانات والانعزال عن العالم وانعدام الأدوية الفعالة والمسكنات . أولاً: لا يخلع الإنسان ضرسه إلا حين يشتد به الألم ويظهر الخراج (الورم) ولا يستطيع أن يهدأ أو ينام فالألم ينخر العصب ويضرب النافوخ ويجعل المصاب يدوخ .. ثانياً: عملية الخلع تتم بآلة تُسَمَّى (الكِلاب) ونطقها الشعبي آنذاك بكسر الكاف وتخفيف الألف فهي تماثل في نطقها تماماً جمع التكسير لمفرد (كلب) ! والكلاب هذا آلة تشبه (الزرادية) الآن .. لكنها في الغالب آلة علاها الصدأ وتكاثرت فوقها الجراثيم وعشعشت الفيروسات وربما بقايا الدماء .. يأتي المريض المسكين لخالع الضروس مصحوباً برجلين قويين يمسكانه أمام (الخالع) الممسك بالكلاب المخيفة والرجلان يمسكان بالمريض بعنف فيدخل في فمه الكلاب وينزع الضرس الوارم بعنف بلا أي تعقيم أو تخدير فيصرخ المريض ويهب وهو ممسوك وتسيل دماؤه على فمه ! .. ثم يذهب والألم يحرق فمه ويضرب رأسه بالمطارق وهو وحظه من التهاب ومضاعفات ! .. وقد كان في إحدى القرى رجل معروف بالتطبيب آنذاك : يكوي ويحجم ويخلع الضروس بكلابه المخيفة ويداوي الصاحين والمجانين، الصاحي يحله أو يكويه أو يحجمه أو يذيقه مر العذاب إن كان المرض في ضرسه بشراسة (الكلاب) أما المجنون (فيعرقي على رأسه) أي يكويه في الدمجة (وسط الرأس) بسيخ أحمر يلتهب ناراً ويشتعل اشتعالاً فيضع فوق رأسه علامة x بالنار لتبقى علامة فارقة إلى الموت، وعند إركاء سيخ الحديد الملتهب على رأس المسكين تفوح رائحة شعره وجلدة رأسه (كأنه رأس خروف .. يحسحس ) ويصرخ وإلّا مايصرخ ممسوك ممسوك ومكوي مكوي بالنار الحامية ! الشاهد أن هذا الرجل ضُرِب أكثر من مرة من المرضى الذين يخلع أسنانهم بكلابه وعنفه، يضربه المريض بلا شعور (من حرّ مايوجس) فوضع غرفة صغيرة خاصة بخلع الأسنان لها نافذة فيها أسياخ حديد يقبع المريض أمامها ممسوكاً ويقف (الخالع) داخل الغرفة بينه وبين المريض شبك الحديد فيدخل كلابه بين القضبان ويخلع ضرسه بعنف وليضرب برأسه الحديد أو الحيط، غير أن بدواً أحضروا معهم بدويا نشيطاً عن "عشرة رجاجيل" لكن ألم ضرسه تجاوز الحدود فوضعه أمام الحاجز وأدخل الكلاب في فمه وخلعه بعنف فخلع البدوي النشيط شبك الحديد وخاض في بطن الطبيب وكلاهما يصيح ومن يومها اعتزل الطبيب مهنته دون حفل تكريم !