بأجساد مجردة، تلقوا القتل والدمار، ثم قبروا في مدافن جماعية، ليخفي الطغيان ما يستطيعه من أثر. أو ليداري ذوي القتلى أحزانهم، بعد أن تحول أبناؤهم وأقاربهم أو جيرانهم إلى مجرد أرقام في إحصائيات بلا معنى، تكلل تاريخ البشرية بالعار. حتى أصبحت المجزرة فصلاً أساسياً في مسيرة الكون، لا يستطيع الإنسان أن يتجاهله، ولكنه يجاهد في تأويله، لعلنا نعيش أملاً ما، بألا يقتل المزيد من البشر بدم بارد بعد الآن. للمجزرة حضور طاغ وملتبس في التاريخ، خاصة الحديث منه. أحيانا نستطيع التنبؤ بها، فتجري التدابير لمنع وقوعها، ومع هذا تقع، فتسبب صدمة لا حد لها. أن تتوقع قتل بشر عزل، ويقتلون! كما حدث في»سربرنيتشا». الحديث عن المجزرة متشعب، بحسب الأنظمة السياسية التي تأمر بها، والأجهزة الأمنية التي تنفذها، أو المليشيات التي ترتكبها بغفلة من الزمن، فيذهب الآلاف لها ضحايا. لذا يمكن أن نحدد ما نريد الحديث عنه هنا بخصوص المجزرة، أننا نعني تحديداً المجزرة بصورتها الأشد وضوحاً ودرامية. بعيداً عن تداعيات الحروب أو الثورات المسلحة، أي أننا نعني قيام نظام سياسي ما، بتصفية جزء أعزل من الشعب، قام باحتجاج أو ثورة سلمية على النظام، وتقوم بتلك التصفيات القوات العسكرية ممثلة بالجيش النظامي. دائما ما كان العنف الثوري مبرراً كافياً لارتكاب النظم التسلطية جرائم قتل في حق المدنيين، بدعوى إنهاء الثورة وإعادة النظام، وأن قتل المدنيين جاء بصورة عابرة، غير مقصود لذاته. لذا تشير حنة أرندت في دراستها للعنف "إن ممارسة العنف، مثل أي فعل آخر، من شأنها أن تغير العالم، لكن التبدل الأكثر رجحانا سيكون تبدلاً في اتجاه عالم أكثر عنفا". لكن ظهور نمط سلمي من الاحتجاجات، أحرج الأنظمة القمعية، التي باتت غير قادرة على إيجاد مبرر لاستخدام العنف، لكنها رغم هذا، تستخدم العنف على الأرجح من أجل ترسيخ السلطة وعودة النظام، عندما تستطيع فعل ذلك. هل ما زالت المجزرة ممكنة ؟ ومتى ينفذها جيش نظامي بصورة مبرمجة كليا وبدم بارد؟ الكثير من الحديث يدور حول هذه الجزئية، وللتساؤل مشروعيته، خاصة مع معرفتنا الآن بأن الثورة السلمية الشعبية ممكنة. الحجة الأكثر تقليدية في هذا الإطار، الإشارة إلى سطوة وسائل الإعلام الحديثة، التي جعلت الأحداث تنقل مباشرة إلى العالم أجمع في لحظتها، وعلى الهواء مباشرة، عبر الصوت والصورة، بتقنيات حديثة لم تعد ملكاً للدولة فقط، بل متوفرة لأي فرد، باستخدام وسائط الإعلام الجديدة، في الهواتف وشبكة الإنترنت. الكثير يجادلون بأن هذه التقنيات جعلت استفراد الأنظمة السياسية القمعية بشعوبها مستحيلاً، وبالتالي أصبحت المجزرة غير ممكنة عملياً، لأنها ستثير سخط بقية البشر على تلك النظم، في عالم متضامن بفعل العولمة. ولأن للنظم الاستبدادية مصالحها المشتركة مع العديد من الدول، والتي تخشى على تأثرها في حالة ارتكابها لمجازر وإبادات جماعية تجاه شعوبها، في عالم ينشد السلام، أو يدعي هذا على الأقل!. من ناحية أخرى، يشار إلى المحاكمات التي جرت تجاه الجنرالات الذي أمروا بارتكاب مجازر حول العالم، من محاكمة القادة الألمان بسبب "الهولوكوست" ، وقادة اليابانيين كمجرمي حرب، إلى المحاكمات ضد قادة الخمير الحمر في كمبوديا، بقيادة بول بوت، والذي أباد قرابة المليون وسبعمائة ألف نسمة، أي 20% من السكن خلال الأربع سنوات الممتدة بين 1975م إلى 1979م. لكن تجاربنا الأحدث أثبتت أن هذه العوامل غير قادرة على إيقاف المجزرة، بل تكتفي بفضحها بعد وقوعها، وفي أحسن الأحوال الضغط من أجل إنهائها سريعاً! ومحاسبة الفاعلين بعد عشرات السنين. أولئك الذين تتضاءل الآمال في ندمهم، بسبب ارتباط تلك الإبادات بغرور إيديولوجي طاغٍ، وروح انتقامية هائلة، وحياة طوباوية موعودة. "هل يتصور أحد ما أن رادوفان كاراديتش نادم على ما فعل؟!!". التغطية الإعلامية للمجازر نسبية بصورة مرعبة، فما زالت الكثير من دول العالم بمثابة مناطق معزولة إعلامياً، فلا شبكات هواتف متطورة، ولا شبكة إنترنت، أو حرية للصحفيين الأفراد. كما أن المجازر الأقدم لم تكن بمنأى عن معرفة العالم بها، فالقنصل الأمريكي في الدولة العثمانية تحدث عن مذابح الأرمن مبكراً في بدايات القرن العشرين، دون أن يتم أي تحرك تجاهها، تلك المجازر التي تمت على مدى سنتين على الأرجح!. ويبدو بأن عشرات السنين لم تجعل التعامل الدولي مختلفاً، فمجزرة الصرب ضد مسلمي البوسنة من البوشناق منتصف التسعينات، في "سربرنيتشا" والتي راح ضحيتها الآلاف من المدنيين العزل، تمت تحت أنظار الجنود الهولنديين المكلفين تأمين المنطقة من قبل الأممالمتحدة، والتي أعلنتها منطقة آمنة قبل أيام من وقوع المجزرة!. الصورة لم تصبح بعد أكثر إشراقاً، فالدول الأقل حداثة، والتي تتمتع ببنية تحتية متهالكة، و قدرات اتصالية محدودة، تمت بها العديد من المجازر، والتي عجز الرأي العام عن إيجاد صور لها أو وثائق إثبات، عدا البحث عن مقابر جماعية هنا أو هناك ! فرغم كل الزخم الإعلامي – بالحديث فقط ! - الذي رافق عمليات الإبادة الجماعية في الكونغو أو في دارفور، إلا أن الصورة غائبة تماماً، فلا نكاد نجد توثيقاً لما حدث. هل كان للصورة أن تكون مانعاً لحدوث المجزرة ؟! تجاربنا في "سربرنيتشا" البوسنية و "حلبجة" العراقية و "ميدان السلام السماوي" في الصين لا توحي بهذا أبدا. فالمجازر تمت تحت أنظار العالم، وإن كانت التقنيات الإعلامية لم تصل ذورتها كما في العشر سنوات الأخيرة. فمجزرة "ميدان السلام السماوي" والتي تمت سنة 1989م، كانت متزامنة مع زيارة رئيس الاتحاد السوفييتي جورباتشوف إلى الصين !! إلى الحد الذي جعل القادة الصينيين يوصلونه إلى "قاعة الشعب العظيمة" من خلال الشوارع الخلفية!. كما يمكن قمع الصحفيين بصورة مرعبة، وإغلاق البلد بشكل كامل إعلامياً، كما يحدث في كوريا الشمالية، والتي نجد أن صورة مهربة للزعيم كيم جونج أيل تعتبر كنزاً ثميناً للإعلاميين لا يقدر بثمن! لا المحاكمات ولا التغطيات الإعلامية المكثفة استطاعت منع وقوع المجازر فيما بعد. لأنها تحدث لأسباب يتضاءل أمامها كل شيء، ما دامت أرواح البشر غدت بلا قيمة، فمن يستهين بأرواح الآلاف من البشر، هل سيخشى من صورة فوتوغرافية تفضحه دولياً أو محاكمة قد تتم أو لا تتم؟!! المجزرة تحدث في منطقة التقاطع بين الإيديولوجية واليوتوبيا، فجل الأنظمة التي قامت بارتكاب المجازر كانت تمتلك نظاماً سياسياً تسلطياً، يملك قوات عسكرية نظامية شديدة الأدلجة. وبالتالي تملك يوتوبيا طاغية، أو جنة موعودة، تخشى عليها من "الأوغاد" ..لذا تقوم بإبادتهم!. تنتج لنا هذه الأيديولوجيات ذلك النوع من البشر الذي يقتل بمنطق "لا يوجد شيء شخصي .. إنها الأعمال" في صورة هوليودية تجسد قمة البرود في التعامل مع العذابات الإنسانية. لا يمكن أن يرتكب جيش وطني غير مؤدلج مجزرة بحق مواطنيه. جل المجازر ولدت من رحم أنظمة ذات عقيدة شمولية قومية أو شيوعية أو ذات انتماءات دينية راديكالية. قد لا تقوم هذه الأنظمة بارتكاب مجازر لسبب أو لآخر، لكن احتمالية "المجزرة" لديها أكبر بكثير. الجيش الوطني غير المؤدلج لا يرتبط بأي يوتوبيا، عقيدته ترتبط بالدولة والشعب، أكثر من ارتباطه بالنظام السياسي القائم، لا تعنيه مصالح النظام الحزبي بأيديولوجيته الضيقة، يرى أن العدو في الخارج، لا يمكن أن يكون هذا العدو جزءاً أعزل من الشعب يحتج على تضاؤل الحريات أو لأسباب اقتصادية. قد يقف على الحياد بين النظام السياسي وبين الشعب، لكنه على الأرجح لن يرتكب "المجزرة" ما دام جيشاً وطنياً لا عقائديا. القوميون الراديكاليون هم من ارتكب المجازر العثمانية ضد الأرمن، والعراقية في "حلبجة" ضد الأكراد، ومجزرة الصرب في"سربرنيتشا" والتي كانت بسبب اختلافات عرقية ودينية، بالإضافة إلى مجازر السافاك، والذي كان جهازاً قمعياً قومياً في إيران الشاه، وتأتي الجرائم الإسرائيلية في كفر قاسم ودير ياسين وأخرى في غزة في هذا الإطار، باعتبارها جرائم صهيونية، يتقاطع فيها العرقي بالديني. كما أن الشيوعيين هم قتلوا عشرات الآلاف من البولنديين سنة 1940م، وهم من نصب المشانق للشعب الكمبودي إبان حكم بول بوت في سبعينات القرن الماضي، والذي كان يحكم بعقيدة ماوية راديكالية. وهم من حرك الدبابات على أجساد العمال المحتجين في ميدان السلام السماوي في بكين سنة 1989م. إن كانت الأيديولوجيات الدينية ارتكبت مجازر هائلة عبر التاريخ، وما زالت، بسبب الاختلافات المذهبية، فلن تذهب بنا الإيديولوجيات الحداثية "القومية والشيوعية" بعيداً في هذا الاتجاه، فلكل منها وجهها الطوباوي، الذي يجعل قادتها يرون أنفسهم مخلّصين، بالمعنى الديني للكلمة!. من هنا لا يمكن التنبؤ بحدوث المجزرة، ولا تبدو الأجهزة الإعلامية أو المحاكمات الدولية قادرة على التصدي لها، لأنها تنهل من منطقة بشرية غامضة، تعج بالراديكالية، والكراهية للمختلف، لأي عدو مفترض، يسعى في لحظة ما لإهدار الجنة الموعودة، أو اليوتوبيا، التي تخلقها الأيديولوجيات المتطرفة لأتباعها. أكوام من جماجم المجازر في كمبوديا رادوفان كراديتش من مذبحة ميدان السلام السماوي