1 فعل المضارع، فعل الحاضر اليومي المعيش هو الذي يٌكتب في رواية التلصص الصادرة منذ العام 2007 للروائي المصري صنع الله إبراهيم: «يصلي الظهر ثم يرتدي البزة البنية» «نغادر المنزل» «نٌخرج إلى الشارع»، لافتة كبيرة بعرضه تهنئ «مشعل» «بالعودة من الحج» «حج مبرور وذنب مغفور» «نستقل الترام» «العباسية» «ثم مصر الجديدة». نمضي من أمام فيلا فخمة تجمّع أمامها جمهور من السيدات البلديات». بهذا الإيقاع من الكتابة المقتصدة، الناشفة وعلى مدى 300 صفحة يكتب الكاتب عن علاقة أبن في التاسعة وهو يرقب كل شئ من حوله بدءا من طربوش والده، افياشات الأفلام في حقبة ما بين الحربين في القرن المنقضي، ومرورا بما يجري بين المرء وذاته، جسمه، رغباته العجولة التي لم تٌشبع، ونزواته التي لا يجرؤ على الإتيان بها إلا خطفا. منذ الصفحات الأولى والوالد والابن في الحي، في الشارع. يقبض على يده فيضعنا المؤلف معه كي نتابع كل شئ. البعوض المزعج بصوته وهو يحاول قرصه ليلا. الصراصير الذين يتدبر أمرهم بالمبيدات والمزيد من النظافة. كاميرا تمسكها يد قوية لا تهتز ولديها متسع من الوقت لكي نرى كيف يتسع الوقت في أحياء مصر القديمة، الأحياء الشعبية، وهي تتحرك فوق الوجوه والسحنات المرحة والحزينة فنأخذ منهم أدق التعابير:» «يدي اليسرى دافئة في قبضة أبي القوية»، «سوط السائق يلسع ظهر الحيوانين». فيلم جيد وناجح وتام الصنع بالأسود والأبيض. الدنيا قبل الثورة، والبشر يتمهل أمام الفقر والجوع، لكنه لا يغفل عن الصلاة والدعوات، الاثنان يلبسان العوينات الطبية لكن الابن يجد نفسه يلبس واحدة، هكذا، من دون فحص، ولا إجراءات من أي طبيب، فكل شيء يبدو ملائما: «صف من باعة الأشياء القديمة، وما سحي الأحذية. كوم من النظارات القديمة فوق جريدة على الأرض، ينحني أبي ويقلّب بين النظارات. يختار واحدة ويطلب مني أن أرتديها، أجرب ثالثة بيضاوية في إطار رفيع. أشعر بتحسن في الرؤية. هكذا تجري الأمور، وهكذا نلاحظ صفحات الرواية الصادرة عن دار المستقبل العربي في العام 2007. السطور في الصفحات بينها مسافة أكبر من تلك التي نطالعها في الروايات العربية. الحرف كبير، أسود وواضح جدا. وصفحات الكتاب كأنها طبعت على شكل طباعة الحاسوب بحرف 22. هل تقصّد الكاتب والدار هذا الشكل القريب للشكل الصحافي الذي كان دارجا منذ عقود طويلة من أجل عيني صنع الله إبراهيم بالذات وطاقتها الضعيفة على الإبصاركما هي عيني، فارتحت كثيرا في القراءة. 2 هذا الصبي يتيم الأم ويعيش في كنف والد ستيني يتقاضى تقاعده، وهو المسؤول عن جميع شؤون الصبي. والدته كانت شابة حين أنجبته وقضتْ. والوالد له زوجة وأولاد وأحفاد، وحين يرد ذكر تلك الأم في خاطر الصبي/ الراوي أيضا، يتغير الحرف ولونه ويوضع الكلام بين قويسات صغيرة فنشعر أن النسق اختلف، والسياق أيضا. أي شاردة ترد على ذهن الطفل وهو وسط الجميع، تبدأ النبرة تختلف واللغة تبدأ بالحنو واللطافة، وهو يتقصى ماضيه، يتفحص، يتذكر، يراقب تلك التفاصيل «أمي في فستان ملون، رأسها مغطى بإيشارب حريري يحيط بوجهها. في قدمها حذاء بكعب متوسط الارتفاع مقفول من الأمام. أهم بالجلوس فوق فخذيها فتبعدني عنها. يأخذني أبي بين ساقيه». طوال الرواية يحاول الصبي تجنب المرور على الكنيف، وإذا ما دخله فعلى عجله وهو يتأفف. في روايته المهمة تلك الرائحة كانت رائحة الكنيف تغطي صفحات الكتاب بمدلولها النفسي والسياسي والاجتماعي بتداعياتها البايولوجية الزاخرة بالتقزز والفضيحة والقرف. في تلك المراحل، تشكل الوعي الطبقي بالشظف والفاقة، بذاك القليل، الشحيح في الدخلْ، الثياب، الطبابة، الطعام الذي يصل في بعض الأحيان إلى حدود الصوم. ومن تلك الساعات والأعوام، وفحص الفضول العارم للصبي، ودفعة واحدة، ما بين التباين في جميع الأمور التي تمر من حوله، وجواره، وداخله كانت تسمح له بالتأمل والاختلاف، بالاكتشاف والتفاخر بما وصل إليه المؤلف ككاتب مميز في مشهد الرواية العربية. في التلصص أختفى التوثيق الذي كان يستنزف أحيانا أكثر من نصف الرواية، هذه طريقة ونوعية في الكتابة دأب وأجتهد فيها صنع الله إبراهيم دشن فيها أسلوبا يعتمد المباشرة واللغة الناشفة، وتوالي الانتفاع من الصحافة والبحوث، السينما والفديو ومراكز البحوث، من فنون الطب والأدوية لإضاءة العمل، الشخصيات والمصائر. كانت استراتيجية الكاتب ومنذ روايته الأولى تلك الرائحة التي منٌعت وطبعت بطبعات عدة، وفي أكثر من بلد عربي واحد وبتراجم وبلغات عديدة أيضا وإلى اليوم، في كتابة روايات ذات إشكاليات وسجالات اجتماعية وسياسية وإلى مدياتها القصوى، في الجهر والتحدي والتعرض لأنواع من صنوف المنع والسجن التي تعرض لها المؤلف مع جيل كامل. 3 التلصص رواية جمعت خيوط ما أشتغل عليه المؤلف طوال حياته، ودرج عليه في عموم رواياته ؛ الأسلحة الفاسدة، الهدنة، قيام الدولة العبرية، تشكيل الأحزاب اليسارية وقوتها وانتشارها، وتشكيل الوعي الطبقي بالذات والانحياز للفقراء والعدالة الاجتماعية. حين يصور الكتاب البؤس والأسى الذي يغطي كل شيء، الثياب، العمارات، الأثاث، الحواري، حتى الرغبات كانت قليلة وتنتهي بلمسة لكي تخفف الوطأة. كل هذا مكتوب بحيادية لغوية باردة جدا لكنها ماكرة في أكثر الأحيان. النعوت نادرة أو معدومة، التحليق مهما كان نوعه حتى لو كان خيالات وأوهام طفل في التاسعة، كأن الفقر يلغي الحلم والتخييل وليس العكس. صحيح الفقر يوجع حين نلاحظ أن الصبي ليس لديه إلا سترة واحدة وسروالا واحدا لكنه يراقب أولاد الأثرياء، أو الأكثر وفرة منهم فتنمو استحقاقات الوعي في جولاته الإبداعية ورواياته المثيرة: نجمة أغسطس، اللجنة، بيروت بيروت، شرف، ذات، وردة، امريكانلي، الجبة والعمامة، يوميات الواحات، إضافة إلى ترجماته المهمة: العدو، التجربة الأنثوية.. الخ. سحرني الوالد في هذه الرواية بفرادة شخصيته، كأنه يعيد أمامنا أنتاج بعض أجمل ما تعلمه الوالد من النساء، والدته هو شخصيا، النساء في العموم، الخالات والعمات، المسنات اللاتي كن وما زلنا نعود لتعاليمهن من حين لآخر، كما مع هذا الوالد الذي يتبع نظاما صحيا وطبيا، وتعليميا واجتماعيا. فيضع ثيابا عتيقة في فجوات الأرض، أو شقوق الشبابيك. يقرأ على رأس الابن آية الكرسي. لا يأسره في الدين إلا الأخلاق الحميدة. ++++ رواية التلصّص وعلى النحو الذي شٌيدت فيه كانت تشي بالاختناق والعسف يتجاوز حدود نشرها في العام 2007. في وسعنا القول إنها رواية تكُتب لحظويا هذه الأيام، وعل النحو الذي نراه كشهود. رواية تدافع عن كل شبر من أشبار مصر، أمنّا جميعا، وكل نبضة من طموحات الراوي/ المؤلف، وباقي رواة تاريخ مصر الحديث الذي يشٌاد للتو.