رحل الثبيتي، وترك وراءه أثرًا أكبر من حياة، ترك قصيدة جيل، وهويّة مرحلة، حينما نستسلم لسنّة الله في خلقه، ونخرج من فاجعة موته، ونقف في يوم تأبينه مطالبين بإنصاف الموت له بعد أن خذلته الحياة، وكسرته المواقف، ويتّمته الظنون، وغيّبته ظلاميات أول الضوء، وحمّلته ريادة الهويّة ما لم يحتمله قلبه الموهن.. بعد كل ذلك علينا أن نتساءل لماذا يحضر الثبيتي في كل الشؤون النقدية والبحثية التي تناولت مسيرة الشعر السعودي الحديث.. عنّي لا أعتقد أن هناك باحثا أو ناقدا أو مهتما بتاريخ القصيدة السعودية الحديثة لم يأخذ من الثبيتي بعضه نموذجًا.. ولذلك تشظّى الثبيتي دائما في الدراسات والأبحاث التي تناولت الشعر السعودي لدرجة التداخل والتقاطع والتشابه والكثافة والاستمرار والتمدّد، فالثبيتي حضر في أول النقد الحديث حين استعان به كثيرا للتوفيق بين حداثة الشكل وأصالة الموروث، لاسيما في ظل الرفض القاتل الذي واجهته القصيدة الحديثة في أواخر السبعينات وأوائل الثمانينات.. حضر الثبيتي في دراسات نقدية منفصلة، تمامًا كما حضر في مقالات انفعالية، حضر في الداخل كما حضر في الخارج، من أول البازعي والسريحي حتى آخر العبّاس أكثر من ثلاثة عقود هي العمر التقريبي لحضور الثبيتي بيننا، كان دائما المحرّض على البحث، والباعث للدراسة، والمؤمّن على حضور الناقد، ولهذا وجب على المهتمين بشؤون القصيدة السعودية الالتفات إلى هذا الحضور النقدي الكثيف للثبيتي.. وجمع شتاته في إصدار موحّد، وأثق حينها أن مادته ستختصر بشكل كبير في ثرائها وتنوعها وكثافتها مسيرة النقد المواكب للقصيدة السعودية.. أما لماذا يحضر الثبيتي بهذه الكثافة، فأقول إن الثبيتي كان دائمًا هوية القصيدة السعودية التي تخلّقت فيها صحراء المدينة، ونبتت فيها نخلة القرية، وتزامنت فيها الطائرة والناقة.. الثبيتي جاء شاعرًا ليكتب نصا شعريا سعوديّا سعوديا أو ليكتب أصالة حديثة، وحداثة أصيلة، هو بلا شك الهويّة الأجمل لقصيدتنا، أوّل من أقنع التقليديين بضرورة تفعيل الإيقاع ليكون دعامة المعنى، وأول من طار بالمعنى إلى ما وراء المغنى.. فاصلة : للراحل «محمد الثبيتي» أتدرك ما قالت البوصلةْ؟ زمني عاقرٌ قريتي أرملةْ وكفّي مُعلّقةٌ فوق باب المدينةِ منذُ اعتنقْتُ وقار الطفولةِ وانْتَابَنِي رمدُ المرحلةْ.