ضجيج كبير يحيط ب»محمد» الأخ الأصغر من أصل سبعة أشقاء؛ فاليوم الخميس الذي خصص لتجمع الأسرة.. الجميع حاضر بأبنائه، وضحكات الأطفال تأتي إلى مسامع «محمد» من بعيد، وصوت التلفاز خافت، وضائع بين تعالي نقاشات أشقائه، وهاجس بداخل «محمد» يصحبه إلى حكاية هذا البيت الكبير، فيما بقي والده السبعيني ينظر إليه بتأمل وتعاطف وهو يؤرجح فنجان القهوة بين يديه، فالوالد يدرك ما يحيك بنفس ابنه الأصغر، والذي مازال يذكر اليوم الذي تخرج فيه ليلتحق بوظيفة «معلم»، ويتحمل مسؤولية هذا البيت الكبير -بيت الأسرة-، ثم يتزوج ويستقل في شقة صغيرة وينجب طفلتين، لكن مسؤولية أسرته تبقى معلقة، ملتصقة به دون مشاركة أحد من أشقائه، على الرغم من أنهم أفضل منه في الوضع المادي. «محمد» لا يشعر بالأسى على «نخوته» الكبيرة تجاه أسرته، أو ربما تجاه البيت الكبير الذي يأتي إليه الأخوان لارتشاف القهوة وتناول الأكل نهاية كل أسبوع، لكنه يشعر دائماً بأن رائحة حكاية الدم والشهامة والضمير، التي يفتش بها في وجوه أشقائه شرسة وضائعة بين أنانيتهم في رمي الحمل بأكمله عليه، ودون مبادرة من أحد. «محمد» مازال يكن بداخله الولاء لهذا البيت ولوالديه العجوزين، ولطفولة مازالت تحفر بداخله كل الذكريات، فهو سعيد بمبادراته التي يراها واجبا عليه، لكنه يرتد إلى ذاته لأنه يحزن لقلة نخوة أشقائه وتجاهلهم للمسؤولية، لا يقطع تسلسل تلك الهواجس في داخله سوى صوت شقيقه «سالم» -موظف في شركة أرامكو- ليقول له: «على فكرة يا «محمد» راتب خادمة والدتي قد حان، أرجو أن تسلمني إياه؛ لأنني سأنهي «فيزتها» بعد أيام وستسافر!»، ربما على «محمد» أن لا يحزن لأن «النخوة» ورمي المسؤولية على الآخرين من صفات أشقائه، فهناك الكثير من الأخوان من استغلوا مبادرات أشقائهم في الحياة ليعتمدوا عليها في تسديد ديونهم الإنسانية. ماذا نرجو من نظام لا يفرق بين القدرات والفوارق الفردية ويقضي على روح المنافسة؟ مسؤوليات لا تنتهي يقول «خالد عبد الرحمن»: منذ أن تخرجت وألتحقت بوظيفتي وأنا أجد نفسي أمام مسؤوليات في الحياة تجاه الآخرين لا تنتهي، مضيفاً أن ذلك لا يزعجه لكنه يفكر كثيراً في قلة النخوة لدى البعض، وعدم اهتمامهم إلا بمصالحهم الخاصة، ذاكراً أنه موظف براتب (7000) ريال ومتزوج ولديه شقة للإيجار وطفل واحد، وبالرغم من الحمل الثقيل مع غلاء المعيشة، إلا أنه لا يستطيع أن يتخلى عن شقيقه الذي يعمل براتب (2500) ريال، فهو يحرص دائماً على إمداده بالمال في كل مرة يتسلم فيها راتبه، حتى يساعده على مسؤولياته الزوجية والأسرية، مبيناً أنه يتعجب كثيراً من شقيقه الكبير الذي يصل راتبه إلى 25 ألف ريال في الشهر، وبالرغم من ذلك لا يبادر في مساعدة شقيقه، متسائلاً: كيف للمرء أن يكون سعيداً دون أن يحقق إنسانيته في معنى العطاء والإيثار والوقوف مع أهله وأشقائه؟. لم أنسَ والدتي وتتفق معه «نجلاء الخميس» التي ترى بأن «النخوة» لا تكمن فقط في الأمور المادية، بل كذلك في سلوكياتنا في الحياة، حيث اعتادت أن تخرج من وظيفتها كل صباح لكي تبقى مع والدتها المريضة في بيت الأسرة، للتخفيف من وحدتها، بعد أن استقدمت لها خادمة، مشيرةً إلى أن الإنسان السليم في إنسانيته هو الذي لا يمكن أن يعيش دون أن يصنع في حياته مبادرات حقيقية، تشعره بأنه إنسان حقيقي قادر على الحب والعطاء، وليس التفكير في الأخذ فقط. تهربوا من دفع المبلغ ويؤكد حديثها «سامي عبدالرحمن» الذي لا يحب أن يسأل أحد من أخوته أو يقدم شيئاً لوالديه إذا لم تأت المبادرة منه، فقد أحب «سامي» أن يقوم بمسؤوليته تجاه والديه وشقيقته المطلقة العائدة بطفليها، فهو يحرص أن يقدم إليهم كل ما يستطيع تقديمه، ليس فقط على الصعيد المادي، بل كذلك على الصعيد النفسي والاجتماعي، فهو يحب أن يصطحبهم إلى أي مكان يرغبون بالذهاب إليه دون تذمر، كما أنه يشتري لهم كل ما ينقصهم، في حين يلاحظ بأن بعض أشقائه يتحدثون عن المواقف الإنسانية والمبادرات في الحياة، لكنهم لا يصنعون حيال ذلك شيئاً، بل وربما اقترحوا عليك ما يجب أن تفعله حيال تلك المسؤوليات، مستشهداً «سامي» بقصة العملية التي قرر الأطباء إجراءها لوالدهم المسن في ركبته، والتي تحتاج إلى مبلغ كبير، وقد عقد اجتماع لأجل ذلك وتم الاتفاق بين الأخوة أن يجمعوا المبلغ، فأبدى البعض موافقتهم في حين لم يعلق البعض الآخر، حتى تفاجأ بأنه لم يبادر أحد في توفير المبلغ المطلوب منه سوى اثنين من أخوته، والباقي تهرب!. .. وآخر يلبي طلبات «بيت أهله» رغم ظروفه المالية الصعبة عطاء دائم وبالرغم من الشعور بالخذلان والحزن الذي شعره «سامي» إلا أنه يرى بأن في العطاء الدائم سعادة لا يشعر بها إلا من تضخمت نخوته في المواقف، ومن عاش في الحياة وهو راضٍ عن نفسه، موضحاً أن الأشخاص الذين ماتت بهم النخوة لا يكتفون فقط بعدم المبادرة، بل إنهم يحقدون على من يبادر ويتصف بالعطاء، وربما حاول البعض منهم توجيه الانتقاد لكل ما يصنعه المبادر، وربما رمى بكلمة جارحة في سياق الكلام على من يرى مواقفه الكبيرة مع الآخرين؛ ذلك لأنه يشعر بالنقص وبأنه صغير أمام ذلك العطاء الذي لا يستطيع أن يصل إليه. ذكاء عاطفي ويؤكد «د.حاتم الغامدي» -الاستشاري النفسي- بأن الصفات التي يتصف بها الشخص المستغل لمبادرات الآخرين والقليل في عطائه، يعود إلى نمط التربية التي تربى عليها، فالكائن البشري كائن اجتماعي بذاته، وهو دائماً يفيد ويستفيد من الآخرين، فإذا لم يتربَ الطفل خاصة في السبع السنوات الأولى من عمره في تحديد معنى المشاركة الاجتماعية، فإنه ينمو شخصية مستقلة، وهي تلك الشخصية التي تبحث عن تكوين «الأنا» العليا، كما أنه يبحث عن تكوين ذاته بصرف النظر عن أهداف الآخرين، مشيراً إلى أن لتلك الحالات مكونات كثيرة أهمها مدى وجود الذكاء العاطفي، ومدى المشاركة الاجتماعية والحس بالآخرة، إلى جانب التفاعل الاجتماعي والإحساس بتلك القيمة، وهي أمور تعتمد في مجملها على مدى وجود الذكاء العاطفي لدى الفرد. حب الأنا وأوضح «د.الغامدي» أن «دانيان بوتمن» نفى جميع النظريات التي تناولت الذكاء العقلي، ووصل في نظريته إلى أن الإنسان لا يتكون فقط على الذكاء العقلي، بل إن هناك مكون اجتماعي آخر، وهو الذي يسمى بالذكاء العاطفي أو الإحساس بالآخر، ذاكراً أن نمط التربية يسهم بشكل كبير في تنمية الذكاء العاطفي لدى البعض فهناك -على سبيل المثال- أشخاص لا يميلون إلى المشاركة الاجتماعية، ويتصفون بحب «الأنا» والذات بشكل عالٍ جداً، وذلك ما يدفعه حينما يصبح شاباً، يصبح غير قادر على تحمل المسؤولية، مضيفاً أن مثل هؤلاء في الحياة، يكونون معرضين أكثر للفشل، فتكثر في حياتهم نسبة الطلاق؛ لأنهم يفتقدون الشعور بالآخر بقدر مايشعرون بذواتهم -وهي ما تسمى بالأنانية الذاتية-، مصنفاً الشخصيات إلى أربعة أصناف الأولى منها: والمتمثلة في الشخوص التي تحب أن تفيد وتستفيد، وهؤلاء من نطلق عليهم ب»الشخصيات الإيجابية» في الحياة، فهم الذين يحبون أن ينجحوا وينجح الآخر، وثانياً «الشخصيات الاستغلالية» وهي الشخصيات التي تحب أن تنجح في مقابل أن يفشل الآخرون وهؤلاء دائما يحبون الصعود على أكتاف الغير. وأضاف أن الشخصية الثالثة هي من يفضل أن يفشل في مقابل أن ينجح الآخرون، وهؤلاء الشخصيات من يحبون أن يفادوا الآخرين بأنفسهم، فيسعى لإسعاد الآخرين وليس إسعاد نفسه، أما رابع الشخصيات فهي التي يكون مبدأها في الحياة «أنا أفشل والآخر يفشل»، وهذا النوع من الشخصيات سلبي جداً جداً، وعلى قولة: «علي وعلى أعدائي»!. مرحلة الطفولة وأوضح «د.الغامدي» أن المجتمع لابد أن يتطور بمبدأ كيف أنجح والآخرون ينجحون وليس العكس، أما عن اكتشاف صفة الاستغلال والأنانية وتضخم «الأنا» لدى الإنسان منذ الطفولة، فيشير إلى أن جميع العلماء أكدوا على أن مرحلة الطفولة المبكرة والمتوسطة هي المرحلة السنية الخطيرة جداً في تكوين نمط الشخصية الاجتماعية لدى الأفراد، أي من عمر سنة إلى سبع سنوات تتكون شخصية الطفل، وما بعد هذه المرحلة يصبح لديه تطوير لنمط الشخصية، وهنا يأتي الدور الكبير الذي لابد أن يعيه الوالدان في مرحلة الطفولة المبكرة والمتوسطة، وهو كيفية تربية أبنائهم، فإذا وضحت لهم بعض السمات في شخصية الابن وهي نواحٍ لا يمكن أن يكتشفها الوالدان إلا إذا كانا يتمتعان بالخبرة وملاحظة سلوك الأبناء، فيستطيعون تعديل السلوك لديه، وإذا تعذر ذلك فلابد من اللجوء إلى المتخصص ليساعدهم على حل مشكلات الابن، ذاكراً أنه إذا لم يتم تعديل السلوك في مرحلة الطفولة فإن مرحلة المراهقة ستكون صعبة جداً؛ لأنها المرحلة التي يخرج فيها المراهق للعالم الخارجي، ليبدأ يسأل نفسه سؤالاً مهماً من أنا؟، وهنا يبدأ في تكوين شخصيته، ولكن بما تعلمه وتلقاه في طفولته، مبيناً أن الشخصية هنا تأخذ ذات النمط، ولذلك كلما تربى الطفل في بيئة صحية ونفسية سليمة، فإنه ينمو في مرحلة المراهقة والشباب بشكل سليم. شخصيات منبوذة وتحدث «د.الغامدي» عن الآثار النفسية والرواسب التي يتركها مثل هؤلاء «الأنانيين» على الآخرين، فهم يؤثرون على أنفسهم أولاً قبل تأثيرهم على الآخرين، ويصبحون شخصيات منبوذة من قبل الآخرين، وربما ذلك ما يدفعهم -على الأغلب- إلى العزلة الاجتماعية، ويحققون أهدافهم بأنفسهم، لذلك فإن أصدقاءهم قلة، مضيفاً أنهم ينظرون إلى مصالحهم الشخصية دون النظر لمصالح الآخرين، وبالتالي فإن الآخرين ينعزلون عنه اجتماعياً، وذلك ما يدفعه إلى العزلة والميل إلى الصداقات السطحية، كما أنه يتسم بالتفكير المعتمد على «الأنا» العالي، ومشاركاته الاجتماعية قليلة جداً، حتى على صعيد مستوى أعمارهم، حيث يشعر بالداخل بالوحدة والاكتئاب وأمراض نفسية، مبيناً أن هؤلاء الأشخاص متلذذون بالأمل الذي يعيشون فيه، فإذا لم يستشعروا أن هناك مشكلة في دواخلهم، وأن المجتمع بدأ ينعزل عنهم، فلا يمكن تغيرهم إلى الأفضل، إذ لابد أن يقر بمشكلته ويعرض نفسه على طبيب بنصيحة الأسرة التي تقدم له التوجيه، لافتاً إلى أن مثل هؤلاء بحاجة إلى صدمة تحدثها الأسرة له بالمصارحة والمواجهة، حتى يعي بأن لديه مشكلة تحتاج إلى علاج نفسي. معنى الإيثار وميّز «د.الغامدي» بين مفهوم الإيثار وبين تحقيق أهداف الآخرين على حساب الشخصي، فالإيثار قيمة إسلامية عالية جداً، وهو يأتي بمعنى أن أعطي الآخر في الوقت الذي أنا بحاجة فيه إلى العطاء، وفي ذات الوقت أقدمه للآخرين بالرغم من حاجتي إليه، أي تأجيل مصلحتي الشخصية من أجل مصلحة الآخرين، مضيفاً: «هذا هو الإيثار الذي نحتاجه من الآخرين وهم قلة، فالكثير يفضل مصالحه على مصالح البعض، ولكن هناك من يشعر بالحب الحقيقي في الأخذ أكثر من العطاء، وهؤلاء هم الأنانيون، لذلك فنحن نرفض الحالتين ونرغب في تحقيق مبدأ الأخذ والعطاء، فكما أنا أعطي الآخرين، أريد أن آخذ، وكما أحبهم فإنني أرغب أن يحبوني، ولكنني يجب أن لا أكتئب إذا لم يأتني حب من الآخرين، لأقدم أشياء في الحياة أسمى من أي شيء»، موضحاً بأن مثل هؤلاء الأشخاص يبدعون كثيراً في الأعمال الخيرية والاجتماعية، فهو لا ينظر للقدر المادي بقدر ما ينظر إلى القيمة الاجتماعية وتحقيق الذات.