لا يجمع الطيب صالح وجبرا ابراهيم جبرا أي جوامع أدبية تُذكر، ذلك لأن لكل منهما تجربته الأدبية الخاصة به. صحيح انهما روائيان، ولكن عالم كل منهما الروائي لا يمتّ بصلة نسب إلى عالم الآخر. فهما روائيان من الصعب العثور على قواسم مشتركة بينهما. ولكني وجدتُ مثل هذه القواسم المشتركة في ما كتباه من نقد أدبي. صحيح أنهما لم يتفرغا للنقد، وقد يكون جبرا أكثر تفرغاً من الطيب صالح، إلا أنهما تركا إرثاً لا بأس به يمكن وضعه في خانة النقد الأدبي، بطريقة من الطرائق، كما يمكن العثور على قرابة روحية تجمع بين النقدين، وبخاصة فيما يتعلق بفلسفة كل منهما في تناول النصوص التي يعرضان لها. وعند مراجعتي حوارات مطولة، وفي أوقات متفرقة، دارت بيني وبينهما، تبين لي عمق الصلة التي تجمع بين نظرة كل منهما إلى النقد. ولو أردت أن ألخص هذه النظرة، أو هذه الفلسفة التي تصدر عنها هذه النظرة عندهما، لقلت إنها الحبّ، أو المحبة. فكلاهما كان يرى أن على الناقد أن يُقبل على نقد ما يتعرض له من نصوص، بحب لأن الحب هو الذي يفتح له مغاليق النص، فإن لم يفعل جانبه الإنصاف ووقع في التعسف. دار الحديث مرة مع الطيب صالح عن المتنبي وما كتبه عنه طه حسين في كتابه «مع المتنبي» الذي يعتبره الباحثون في سيرة «العميد» من أسوأ ما كتب. ذلك أن «العميد» - لسبب ما - عجز عن النفاذ إلى شعر المتنبي وسبر أغواره، وكذلك إلى شخص المتنبي بالذات. فقد ذكر عنه في كتابه عنه، انه كان عبداً لشهواته، ومنها شهوات الثروة والغنى والاستعلاء على الناس. أنفق حياته كلها في إرضاء هذه الشهوات، واحتمل في سبيل ذلك ما يُطاق وما لا يُطاق. ذات مرارة البؤس واحتمل ذلّ السؤال، وباع شعره في سوق الكساد، ومدح من كان يحتقرهم أشد الاحتقار، وتملق من كان يزدربهم أقبح الازدراء، ودُفع إلى المخاطرة والمغامرة، وانتهى إلى السجن وتعرض للموت، وباع نفسه وحريته وكرامته للملوك والأمراء. ومازال يتقلب في هذا الفساد السياسي والخلقي حتى تلقاه الموت في بعض الصحراء فأراحه وأراح منه.. عجز طه حسين، بنظر الطيب صالح، عن النفاذ إلى شخص المتنبي وشعره. فما هكذا كان المتنبي في واقع أمره وشعره. ولكن إلى ماذا نرد عجز طه حسين هذا؟ بنظر الطيب صالح، صحب طه حسين المتنبي على نفور وقلة مدّ، كما اعترف هو نفسه. فلا عجب أنه لم يظفر منه بطائل. فالمتنبي شاعر إما أن تحبّه وتتحمس له، وإما أن تتركه وشأنه. أما أحسن النقد عند صاحب «موسم الهجرة إلى الشمال»، فهو ما يُكتب عن محبة لأن المحبة تفتح البصيرة وتزيل الحجب التي تقوم بين ما يرمي إليه الشاعر وبين فؤاد المتلقي. وهذا ما صنعه طه حسين مع أبي العلاء في دراساته عنه، وما صنعه أيضاً باحثون آخرون في دراسات لهم عن المتنبي، إذ باح لهم ببعض أسراره - وما أكثرها - وبكثير من مكنونات قلبه، في حين أنه صد صدوداً كاملاً عن طه الذي اقتحم عالم الشاعر العبقري بنفور يقترب من البغضاء، ونيّة مبيتة على الغض من شأنه والنيل منه، إذكاءً للجدل وإغاظة للناس. وأي نيل أبلغ من التشكيك في عروبة شاعر ترى الغالبية أنه شاعر العربية الأول؟ على الناقد إذن - حسب الطيب صالح - ألا يصطحب السلبية، بداية، في رحلة النقد، فإن اصطحب هذه السلبية لم يكتب له التوفيق في هذه الرحلة. وهذه هي وجهة نظر جبرا ابراهيم جبرا أيضاً. فقد كان يتحفظ على المبدأ الذي يقول ان مهمة الناقد هي أن يفرز الجيد من الرديء. كان له رأي في هذا المبدأ. فعنده أن الذين يعنون بنواحي الضعف في كتابة ما، هم أميل إلى النقاد الهجائيين. ولكن هناك نقاداً من نوع آخر، هم الذين يهمهم أن يبرزوا الصفات التي على كل كاتب أن يتحلى بها، وأن يعرفوا أسرار العمل الجيد وخفاياه. هذا بالضبط ما كان يهم جبرا «لم يكن يهمني أن أتناول الكتّاب الرديئين، كان يهمني أن أتحدث عما هزني في عمل فني أو أدبي ما. إليك القطعة التي كتبتها عن «تاج محل» في أطراف الهند. لقد ذهبتُ بريئاً لكي اتفرج على هذا القصر الشهير الذي بناه أحد ملوك المغول لزوجته، فصعقني من أول نظرة. أذهلني هذا العمل المعماري الهندسي وللحال أردت أن أعرف لماذا حصل ما حصل لي. لماذا شعرت بهذه النشوة الغريبة. شعرت كأن هذا البناء يرتفع نحو السماء وكأن به شيئاً يعيده إلى الأرض لكي استطيع أنا أن أكون جزءاً منه. درست هذا الأثر الفني الفذ، تاريخياً ومعمارياً، وكتبت عنه دراسة اعتبرها من أعز ما كتبت وعنوانها هو «تأملات في بنيان مرمري». وأضاف جبرا: «إن موقفي من أي عمل فني هو موقف التأمل في بنيان مرمري. أريد أن أدور حوله، أن أتسرب في ثناياه، أن اخترقه لأنفذ إلى بعض سره. أريد أن أتعرف إلى جوهره. هذه العملية مجتمعة هي بالنسبة لي العملية النقدية. وأعتقد أنك إذا قرأت بعض دراساتي النقدية لبعض الشعراء، أو لبعض الروائيين، تجد أنني كنتُ أميناً لهذا المبدأ». ومن أطرف ما رواه لي جبرا أنه عندما كان يكتب مرة دراسة عن الشاعر نزار قباني، تجاهل تماماً قصيدته «خبز وحشيش وقمر». أما لماذا تجاهلها، فلأنها برأيه قصيدة في منتهى الرداءة: «شعرت أنها قصيدة رديئة جداً. الحقيقة أنني كنت أحاول أن أبحث عن قيمة شعر نزار، هذا الشعر الذي أعجب الكثيرين ووجدوا أنفسهم فيه واعتبروه نموذجاً للشعر الجيد أو الناجم. عندما كنت اقرأ شعر نزار صدمتني قصيدته «خبز وحشيش وقمر» لدرجة التقزز، ووجدت انها ستفسد سباق النقد الذي كنت اتخذته، فأهملتها اهمالاً تاماً، ولم أشر إليها البتة». وكانت لجبرا طرائق أخرى في النقد، منها الصمت إذا وجد نفسه أمام رداءة كاتب أو رداءة نص. لم يكن يحب أن يخوض غمار الوغي النقدي مع أحد أو ضد أحد إذا تبين له انه سيكون وجهاً لوجه أمام الرداءة. كان إذا هزه عمل ما كتب عنه، وكان صمته صارخاً أو معبراً إذا أحجم عن الحديث عن كاتب أو عن نص متداول. وكان يقول إن هذا المبدأ استفادة من تجربة شخصية عرضت له في بداية حياته الأدبية. فقد كتب مرة في «الآداب» اللبنانية مقالاً عن نص للناقد المصري أنور المعداوي. وجد النص رديئاً، فسمى الشيء باسمه. ولكن التسمية لم تعجب المعداوي، فما كان منه إلا أن رد على جبرا بقسوة وفجاجة في العدد التالي من «الآداب». قال جبرا انه لم يرد على المعداوي - وهذه عادة فيه فهو لا يرد على كل من يتناوله لا ثناء ولا هجاء - ولكنه انقطع لسنوات طويلة عن الكتابة في «الآداب» إلى أن صالحه رئيس تحريرها الدكتور سهيل ادريس. ويبدو أن هذا الدرس القاسي الذي تلقاه جبرا من المعداوي كان وراء عزوفه عن ممارسة النقد كما وضع أسسه بناته الأوائل، وهو أنه عبارة عن فرز الجيد من الرديء. لقد انصرف إلى معرفة أسرار الجوددة والاتقان في الآثار الأدبية والفنية، وترك الغوص في مستنقعات الرداءة لسواه! وكلا الموقفين: موقف الطيب صالح وجبرا ابراهيم جبرا، قريبان ومتكاملان، فالنقد حب ومحاولة لتفحص هذا الحب، أكثر مما هو أي شيء آخر!