(شعره كالفستق المقشّر) حماد الراوية ذكرنا أن ديوان عمر بن أبي ربيعة كله غزل إلا ما ندر، وأنه كان يعشق النساء لكنه يعشق نفسه أكثر ويجعل النساء يتغزلن به، وكثيراً ما يصف حواراً دار بين المعجبات به وهو غائب خلاصته أمنية الواحدة منهن أن تراه، وهذه الأمنية يحققها عمر بسرعة عجيبة، إذ يظهر لهن فوراً فتصاب المعجبة بالانبهار الذي ما بعده انبهار، خاصة أن ظهوره غير عادي فهو يحف نفسه بالمحيط اللائق بمظهره الكريم، فهو مرة فوق جواده المطهم الأصيل، ومرة أخرى يتجلى فارساً يرفع البازي فوق يده.. إلى آخره.. ونختار له الآن قصيدة يصف فيها بدقة من يعرف نفسية المرأة، شعور امرأة شغفها حباً، حين قيل لها إنه تزوّج: خبَّروها بأنني قد تزوجْ تُ فظلت تُكاتم الغيظ سِرّاً ثم قالت لأُختها ولأخرى جَزَعاً: ليتَهُ تزوّج عشرا وأشارت إلى نساءٍ لديها لا ترى دونهن للسرِّ سترا ما لقلبي كأنَّهُ ليس مني وعِظامي إخالُ فيهنَّ فَتْرَا من حديثٍ نُمِي إليَّ فظيعٍ خِلْتُ في القلبِ من تلظِّيه جَمْرا؟! ويقول إن مجرد ذكره وتمنِّي حضوره يُرضي تلك الجميلة حين غضبت على صديقاتها: قُلْنَ يسترضينها: منيتُنا لو أتانا اليومَ في سرٍّ عُمَر! لا شك أنها رضيت فوراً وفوق الرضا فذِكره أسرع دواء! ولاحديث للحسناوات إذا اجتمعن إلا عنه.. ولكنه حديث قد يكون خطير العواقب على بعضهن: قالت لِترْبيها: بربِّكما هل تطعمانِ بأن نرى عُمرا؟! إنِّي كأنَّ النفسَ موجسةٌ ولذاكَ أطمعُ أنه حضرا قالت لها الصغرى وقد حلفت بالله -: لا يأتيكما شهرا.. فتنفسَّت صُعداً لحلفِتها وهوتْ فشقت جيبَها فطرا وجرتْ مآقيها بأَدمُعِها جزعاً وقالت: حُبُّ من حضرا! لقد جزعت وانهارات وشقت جيبها!.. الحمد لله أنها لم تُصب بأزمة قلبية وتمُت فيستأثم فيها عمر الله يهديه! والغريب أنه غيّر (الموجة) هذه المرة.. في العادة لا تكاد الحسناوات يتذكرن ويتمنين رؤيته حتى يخرج لهن فجأة في أجمل طلعة وأبهى طلّة! ويصل بعمر التغزل بنفسه إلى حد (الهوس) حين يجعل تلك الحسناء تتصدى له وتغمز لحضرته فيأبى ويهرب فتلحقه مسرعة والهة تلهث من عشقها له: قومِي تصدِّي له ليُبْصِرَنا ثم اغمزيه يا أُختُ في خَفَرِ قالت لها: قد غمزتُهُ فأبى ثم اسبطرتْ تشتدُّ في أثري! وقد اجتمع كثيِّر عزة معه، فقال له عمر: ألستَ القائل: ألا ليتنا يا عزُّ كُنَّا لذي غِنى بعيرينِ نرعى في الخلاءِ ونَعْزُبُ كلانا بِهِ عُرُّ فمن يرنا يقُلْ - على حسنها - جرباء تُعْدِي وأجربُ إذا ما وردنا منهلاً صاح أهلهُ علينا فما ننفكُّ نُرْمى ونُضْرَبُ لقد تمنيت لها ولنفسك الرِّق والجرَب والرمي والطرد والمسخ!.. فأي مكروهٍ لم تتمنَّ لها ونفسك؟ لقد أصابها منك قول القائل: معاداة عاقل خيرٌ من مودة أحمق.. فرد كثيِّر: ألست القائل: قالت لها: قد غمزتُه فأبى ثم اسبطرتْ تشتد في أثري؟ أتراك لو وصفتَ بهذا الشعر هرَّة أهلك ألم تكن قد قبَّحْتَ وأسأت لها وقلتَ الهجر؟. فصمت عمر وانصرف..! *** على أي حال عمر بن أبي ربيعة من كبار الشعراء في الغزل وقد أُعجب به جرير والفرزدق وقال عنه حماد (شعره الفستق المقشر).. لكنه كان عاشقاً لنفسه يتلذذ باختراع المواقف العجيبة التي (تموت النساء) خلالها حباً فيه.. وقد خلفه في التغزل بالنفس من هو أشد منه وأجرأ وهو نزار.. إنْ كنتَ ريحاً فقد لاقيتَ إعصاراً..!