في الغالب نقف أربعة مواقف عند الحديث عن التقدم والتغيير . من المهم مراجعة هذه المواقف مع دخولنا العام الجديد 2011. أول هذه المواقف يمثلها المتطرفون الذين يرون التقدم في التراجع أصلا , ولهذا مثلا اعتبرت طالبان نموذج للحلم المتقدم بالنسبة لهم . هذا الرفض قائم في أصله اعتراضا على حركة التاريخ الذي بدأته الحضارة الغربية ولكنه أصبح مسارا كونيا عاما . هذا الخط التاريخي بالطبع لا يعني أن هناك وصفة واحدة بل هناك وصفات متعددة ومتنوعة . الفئة الثانية هم المحبطون وهم يظنون أن الاوضاع تتردى و تنحدر يوما بعد آخر . بالطبع من الممكن تفهم مثل هذه المشاعر المحبطة التي نقع فيها أحيانا ولكن مشكلة المحبطين دائما أنهم يبحثون عن الحل السحري . يريدون أن يتغير كل شيء بضربة واحدة . ولكن هذا غير صحيح خصوصا مع التغير الاجتماعي الثقافي الذي يحتاج إلى وقت طويل وعسير . لأن لا شيء يتغير بضربة سحرية، يصاب هؤلاء المحبطون باليأس وبالتالي الاستسلام وإطلاق زفرات التبرم . الفئة الثالثة هي فئة المطمئنين المخدرين الذين لا يتوقفون عن ترديد عبارات تدل على الرضا بالواقع . هؤلاء هم الوجه الآخر للمحبطين . إذا كان كل شيء زين فلم التغيير . بالإضافة لعدم واقعية هذه الرؤية فهي دعوة للجمود و حجب العيوب التي توجد في كل المجتمعات . لا توجد مجتمعات كل شي زين دائما مهما كانت متقدمة , فكيف بمثل مجتمعاتنا . أما الفئة الرابعة وهذه ما أعتقد أنها تملك الطريقة الأفضل للتعامل مع الواقع والقادرة على إحداث التغيير وهي فئة المتفائلين بحذر . أو المتفائلين بالسالب ( إذا اقتنعنا أن للتفائل قطبين موجب وسالب) . هؤلاء تخلصوا من جميع عيوب الفئات الأخرى . فعلى عكس المتطرفين هم مؤمنون بالتقدم , وعلى عكس المحبطين لا يرون الواقع قاتما ويؤمنون أن التغيير عبارة عن مرحلة طويلة من الصدام والصراع ولا يمكن له الوصول بطريقة سحرية . ويختلفون بالطبع عن المطمئنين المخدرين لأن رؤيتهم قائمة على النقد المعارض بشكل أساسي لمنطق " كل شي زين". وفي الواقع لو تأملنا خلال السنوات الماضية فإن رؤيتهم هي الأقرب للصح . لم يتراجع المجتمع كما ينادي الأصوليون , ولم يتردى كما يقول المحبطون , ولم نصبح مجتمعا خاليا من المشاكل ومحسودون كما يردد المخدرون . والذي حدث هو أننا تقدمنا على مستويات الحرية والتعددية والتسامح وغيرها من المجالات ولكن بالطبع مع وجود الكثير من الأخطاء والمخاوف . أنتمي شخصيا لفئة المتفائلين بالسالب ( أقصد الناس وليس كتاب الصحف . لهذا هذا التصنيف يطبق علينا كلنا , ولكن هناك من يظن التغير والتغيير مرتبطاً فقط بمن يعمل في الكتابة وهذا أسخف شيء يمكن أن تسمعه ) . طريقة عملها هي إيمانها بالمبادئ الإنسانية الثابتة ولكن كيفية تحقيقها قد تأخذ وقتا طويلا . على سبيل المثال هذه الفئة تؤمن بشكل لا يقبل الجدل بمبدأ التسامح لأننا نؤمن أن للناس حريتها في الاختيار و ندرك نسبية افكارنا وأننا نميل بطبيعتنا لارتكاب الاخطاء . هذا فضلا على أن التسامح هو ماسيمنح بلدنا الاستقرار والازدهار ويفرغ كل الكراهية والضغائن وسيبعدنا عن الاضطرابات. وندرك أن هناك دولا عديدة ماضيا وحاضرا مزقها التعصب والاستبداد الديني . هذا الإيمان لا يعني أننا الآن نعيش وضعا متسامحا ولكننا ننشر مثل هذه الثقافة وهو أمر سيستمر طويلا .لن نصحو الصباح غدا ونجد اننا متسامحون . ولكن هناك مثل ثابتة نسعى لها بإصرار وروح متفائلة. الشعار الأمثل " الإحباط ليس خياراً" . يقول المفكر محمد الحداد :" الواقع يخون المثل دائما , لكن المثل تظل دافع الإنسانية الخيرة في نضالها المستمر ضد الأنانية والظلم والتسلط" . خلال السنوات الماضية رغم خيانة ومعاندة الواقع إلا أن مثل هذه القيم تحققت نسبيا ليس فقط في التسامح ولكن بقضايا أخرى متعددة. ميزة المتفائلين السلبيين أنهم يدركون أن التغيير الثقافي وغرس قيم النقد و التجديد هي القادرة على رفع وعينا ويضمن له عدم التراجع . شاهدنا دولا عربية عديدة أعتقدنا أنها متقدمة ولكنها ارتدت للوراء بسرعة كبيرة. السبب أنها لم تمر بتغيير ثقافيلطويل الذي يمنعها من النكوص المخيب . لم تترسخ في بنيتها الفكرية العميقة قيم العقلانية والحرية لذا دخلت في الفوضى وانزلقت للتطرف. لذا يجب أن نحذر أن قشرة الحداثة التي تعبر عنها التكنولوجيا التي تطغى على حياتنا لا تعني أننا متقدمون ولكن القيم الانسانية العميقة هي من سيحمينا حتى من أنفسنا . التغيير الثقافي الطويل عبرت عنه التجربة الأوروبية التنويرية التي امتدت قروناً . يقول الفيلسوف فولتير في رسالة لأحد أصدقائه ومعبرا عن مسألة التغيير الثقافي التدريجي :" النقطة الأساسية هي أن يستنير الناس الذين نعيش بينهم وأن ينتشر النور تدريجيا . حينها سيحترمك حتى أولئك الأعداء الجهلة الذين يكرهون العقل والفضيلة ". المتفائلون السلبيون يدفنون الحل النهائي والخلاصي . صحيح أننا ننتظر بعض النتائج الايجابية لنشعر ببعض الراحة ولكن الواقع أن عجلة التغيير إذا استمرت لن تعرف التوقف . لذا لن نصل للنهاية أبدا . يجب أن ندفن هذه الأكذوبة الجميلة . بسبب هذا فإن المتفائل السلبي يدرك أن حلوله ليس نهائية ولكنها مؤقتة مرتبطة بوقته و يغرس قيمة التجاوز المستمر بهدف التحديث المستمر . المتفائلون بالسالب يكرهون التقديس والأديولوجية المغلقة التي تريد أن تحبس التاريخ ولكن المسائل دائما مفتوحة للتعديل . لذا مهمة الأجيال القادمة هي نقدهم وتجاوزهم . ومن جهة أخرى , هم يبشرون بمرحلة جديدة من التعددية لذا ليس صحيحا أن دعوتهم مغلقة وإقصائية بل مفتوحة للجميع. إذا تجنبنا النكسات الاقتصادية ( الناس اذا جاعوا ينسون عقولهم ) والخضات السياسية ( التي تخلق جوا من التجييش والتعبئة) فإننا على الأرجح مع منطق المتفائلين بالسالب سنتقدم ببطء ربما لكن بثبات. أتمنى أن يسود ويتصاعد عدد المؤمنين بهذه الروح المتفائلة الحذرة بما فيهم إخوتنا من الفئات الأخرى المتطرفين أو المحبطين أو المخدرين أو غيرهم . كل عام وأنتم بخير.